2010-12-03
وصفي عاشور أبو زيد ❍
تعتبر
الهجرة النبوية حدثا مهما في التاريخ الإسلامي، بل التاريخ الإنساني، لما
لهذا الحدث من أثر بالغ على أصعدة كثيرة؛ فقد تحول عنده التاريخ، وتبدلت
به الأوضاع، وتغيرت به الأحوال، وتطورت به شبه الجزيرة العربية؛ تمهيدا
لتغيير العالم أجمع.
وكثيرة هي الكتابات التي تحدثت عن الهجرة النبوية
من زوايا متعددة أغلبها يصب في أحداثها، والدروس والعبر التي تعود بالنفع
على الأفراد والأسر والمجتمعات، وكيف نستضيء بها في واقعنا الدعوي
المعاصر، وهي كتابات مقدورة ومهمة، لكننا في حاجة إلى إلقاء نظرة على
مقاصد هذه الهجرة العظيمة التي حولت مجرى التاريخ، وهذه خمسة مقاصد وقفت
عليها بالتأمل والتدبر، ومن تأمل وتدبر وعايش الأحداث وتفاعل معها يقف على
الكثير والكثير:
أولا: حفظ تدين الأفراد:
وهذا مقصد رئيس من
مقاصد الهجرة، وإن كان يرفضه البعض بحجة أن الهجرة كانت لبناء أمة وإقامة
دولة وليست هروبا بالدين إلى مكان آمن، غير أن هذا لا يتعارض مع ذاك، فلا
مانع من أن تكون الهجرة؛ حفاظا على تدين الفرد، وابتغاء إقامة دولة
للإسلام في الوقت نفسه.
وأعني بـ «تدين الأفراد». مستوى الإيمان وحفظه
في قلوبهم، وثباته في نفوسهم؛ لأنهم في ظل هذا الاضطهاد غير المسبوق ربما
تزعزعت نفوسهم، ورجعوا عن دينهم تحت سياط القهر الاجتماعي، والظلم
الإنساني، وعواقب الحرص على الزعامة والسلطة، وآثار التقليد الأعمى في
عبادة الآباء والأجداد. وليس هناك تعارض بين حفظ التدين وحفظ الدين، فحفظ
التدين أمر مخصوص بدرجة الالتزام بالدين في نفوس البشر، ومستوى الإيمان في
قلوبهم، ومدى حفاظهم عليه، أما حفظ الدين فيرجع إلى الرسالة الإسلامية
نفسها والدين الإسلامي كله. وعلى هذا فالتدين نسبي ومتغير، فعن عبد الله
بن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «إن الإيمان
ليخلق في جوف أحدكم كما يخلق الثوب الخلق، فاسألوا الله أن يجدد الإيمان
في قلوبكم ».
أما الدين فثابت لا يتغير، وبناء على هذا فلا تعارض بين
حفظ التدين وحفظ الدين، بل إن حفظ التدين يصب في حفظ الدين وتقوية شوكته
وترسيخه في الأرض عبر المؤمنين به والمدافعين عنه، ولا شك أن الهجرة ضمنت
هذا إلى حد كبير.
ثانيا- إقامة المجتمع الإسلامي:
وهو مقصد
رئيسي، كان في اعتبار الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم- فور وصوله
المدينة الطيبة؛ بل خطط له قبل الهجرة إلى المدينة، وتمثل ذلك في مظاهر:
أولها:
إرساله لمصعب بن عمير هناك مبكرا؛ ليمهد لإقامة هذا المجتمع، الذي كان من
ثماره بيعة العقبة الكبرى التي كان عددها أضعاف الأولى.
وثانيها: حين
بايع المسلمين بيعتي العقبة، فقد أورد ابن كثير في التفسير عن محمد بن كعب
القرظي وغيره أن عبد الله بن رواحة ـ رضي الله عنه ـ قال لرسول الله -صلى
الله عليه وسلم- (يعني ليلة العقبة): اشترط لربك ولنفسك ما شئت. فقال:
«أشترط لربي أن تعبدوه، ولا تشركوا به شيئاً؛ وأشترط لنفسي أن تمنعوني مما
تمنعون منه أنفسكم وأموالكم».
قالوا: فما لنا إذا نحن فعلنا ذلك؟ قال: «الجنة» قالوا: ربح البيع، ولا نقيل ولا نستقيل».
وقد
كان الأنصار مدركين تبعات هذه البيعة وخطورتها، فلم يعدهم النبي بشيء من
حطام الدنيا، إنما وعدهم الجنة، فلا عجب أن يكونوا قاعدة قوية يتأسس عليها
مجتمع المسلمين الأول.
وثالثها: أن النبي -صلى الله عليه وسلم-أقام
المسجد الذي يتلاقى فيه هذا المجتمع للتلاقي والتعارف والتآلف، بعد نزوله
بالمدينة مباشرة، وهو معقل الإيمان، ومورد تنميته وتعهده، ومنطلق النشاط
الاجتماعي والعلمي والسياسي والعسكري فيما بعد.
ورابعها: نفوس الأنصار
الطيبة التي رباها المنهج الإسلامي بقيمه ومثله وأخلاقه، وما أروع ما
وصفهم به صاحب الظلال حين قال: «ولم يعرف تاريخ البشرية كله حادثاً
جماعياً كحادث استقبال الأنصار للمهاجرين. بهذا الحب الكريم. وبهذا البذل
السخي. وبهذه المشاركة الرضية. وبهذا التسابق إلى الإيواء واحتمال
الأعباء. حتى ليروى أنه لم ينزل مهاجر في دار أنصاري إلا بقرعة؛ لأن عدد
الراغبين في الإيواء المتزاحمين عليه أكثر من عدد المهاجرين! (ولا يجدون
في صدورهم حاجة مما أوتوا).. مما يناله المهاجرون من مقام مفضل في بعض
المواضع، ومن مال يختصون به كهذا الفيء، فلا يجدون في أنفسهم شيئاً من
هذا. ولا يقول: حسداً ولا ضيقاً، إنما يقول: {شيئاً}؛ مما يلقي ظلال
النظافة الكاملة لصدورهم والبراءة المطلقة لقلوبهم، فلا تجد شيئاً أصلاً».
وخامسها:
المؤاخاة التي أبدعها النبي ـ عليه السلام ـ بين كل مهاجري وأنصاري، حتى
صار الجميع يتوارثون ويتقاسمون أموالهم، ويتناصفون أمتعتهم، حتى كان أحدهم
ينزل لأخيه عن إحدى زوجاته.
ثالثا: توسيع مجال الدعوة إلى الإسلام:
ويمتد
هذا المقصد منذ الهجرة إلى الحبشة؛ حيث يقول ابن إسحاق: «فلما رأى رسول
الله -صلى الله عليه وسلم- ما يصيب أصحابه من البلاء وما هو فيه من
العافية بمكانه من الله ومن عمه أبي طالب وأنه لا يقدر على أن يمنعهم مما
هم فيه من البلاء قال لهم لو خرجتم إلى أرض الحبشة فإن بها ملكا لا يظلم
عنده أحد، وهي أرض صدق حتى يجعل الله لكم فرجا».
وهناك دار الحوار
المشهور بحضرة النجاشي بين وفد المهاجرين وعلى رأسهم جعفر ابن أبي طالب
ووفد مكة الذي كان على رأسه عمرو بن العاص، فكانت أرضا خصبة يعرضون فيها
مبادئهم وقيمهم وتصورات الإسلام الكبرى حتى دخل النجاشي سرا في دين الله.
ثم
كانت الهجرة إلى المدينة التي مثلت الانطلاقة الكبرى في الدعوة لرسالة
الإسلام عبر المنهج الإسلامي العظيم في الدعوة بالحكمة والحسنى، والمجادلة
بالتي هي أحسن، ومن خلال الغزوات التي أعطت للمسلمين فتوحات مكنتهم
مساحاتها الواسعة من نشر دين الإسلام، وقد ترتب على هذا كله يوم فتح مكة
العظيم الذي قال الله تعالى فيه: «إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ.
وَرَأَيتَ النَّاسَ يدْخُلُونَ فِي دِينِ اللهِ أَفْوَاجًا. فَسَبِّحْ
بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابا». سورة النصر.
رابعا: إقامة دولة تحمي الإسلام وتدعو إليه:
وهذا
مقصد يترتب على ما قبله، فما دمنا أقمنا المجتمع الإسلامي على قاعدتين
قويتين: الأولى: الإيمان وتعميقه في النفوس، والثانية: الأخوة وتقوية
أواصرها، فعليهما يتحقق المقصد الكبير، وهو إقامة دولة تدعو إلى الإسلام
وتحمي ذماره.
ولقد كان المجتمع المدني في ذلك العهد يتكون من شرائح
يلخصها الإمام ابن القيم فيقول: «ولما قدم النبي -صلى الله عليه وسلم-
المدينة، صار الكفار معه ثلاثة أقسام: قسم صالحهم ووادعهم على ألا يحاربوه
ولا يظاهروا عليه ولا يوالوا عليه عدوه، وهم على كفرهم آمنون على دمائهم
وأموالهم. وقسم حاربوه ونصبوا له العداوة. وقسم تاركوه فلم يصالحوه ولم
يحاربوه بل انتظروا ما يؤول إليه أمره وأمر أعدائه، ثم من هؤلاء من كان
يحب ظهوره وانتصاره في الباطن، ومنهم من كان يحب ظهور عدوه عليه
وانتصارهم، ومنهم من دخل معه في الظاهر وهو مع عدوه في الباطن ليأمن
الفريقان، وهؤلاء هم المنافقون فعامل كل طائفة من هذه الطوائف بما أمره به
ربه تبارك وتعالى».
فهذه كلها تنظيمات سياسية للمجتمع القائم، وتكوين
للدولة المسلمة وإعداد المواثيق لحمايتها وحفظها، والوثيقة التي كتبها
النبي -صلى الله عليه وسلم- مشهورة ومعروفة، وهي أول ميثاق لحقوق الإنسان،
وأول دستور في تاريخ البشرية.
خامسا: تحقيق الشهود الحضاري:
وهو
المقصد الكبير الذي من أجله جعل الله الأمة المسلمة، وأنزل لها الكتاب
وأرسل لها الرسول: «وكذلك جعلناكم أُمةً وسطًا لتكونوا شهداء على الناس
ويكون الرسول عليكم شهيدًا ) (البقرة: 143). وهو نهاية المطاف بعد الحفاظ
على الفرد وإقامة المجتمع، وتكوين الدولة، وظهور بوادر الأمة التي جعلها
الله وسطا في التشريع والزمان والمكان.
يقول الكاتب القدير والمفكر
الكبير الأستاذ عمر عبيد حسنة: «هذا الجعْل الوسط، بكل آفاقه وأبعاده
ومقتضياته، هيأ الأمة المسلمة لأهلية تحمل الشهادة على الناس، وأهلية
أدائها لهم، ليستقيم أمرهم؛ ذلك أن النكوص عن هذا التحمل، والقعود عن هذا
الأداء، يترتب عليه مسؤوليات جسام، ويكون سبيلاً لإشاعة الفساد في الأرض،
والخراب الحضاري، وظهور الآلهة المزيفة والأنبياء شكراة، وعودة أصول الشر
الكامن في تسلط الإنسان على الإنسان، وإهدار إنسانية الإنسان وكرامته».
فالأمة
المسلمة أمة شاهدة على الأمم، أناط الله بها المسؤولية عن الناس جميعا،
ومن هنا بدأ النبي -صلى الله عليه وسلم- في مكاتبات الأمراء، ومخاطبة
الملوك والرؤساء يدعوهم إلى الإسلام؛ إقامة للحجة وإبراء للذمة.
وهنا
دان للرسول -صلى الله عليه وسلم- العرب والعجم، لا سيما بعد فتح مكة، ودخل
الناس في دين الله أفواجا، وتحققت العالمية الواقعية للدين الإسلامي،
وأصبح الشهود الحضاري ماثلا للأمة المسلمة الذي يلقي عليها اليوم ـ وقد
تغيرت الأحوال ـ تبعاتٍ ثقيلةً وأعباءً كبارا تقوم على استعادة حراسة قيم
العدالة والأمن والحرية والشورى والمساواة؛ كي تعود أمة قوية فتية، فهي
أمة باقية ببقاء مصادرها التي تستمد منها «الوسطية» والتي هي الميزة
الأساسية في جعلها شهيدة على الناس.
❍ باحث دكتوراه في مقاصد الشريعة الإسلامية، وعضو اتحاد علماء المسلمين