الأستاذ لشهب يونس
المدير العام
الجنـسية : المزاج : الـبـلـد : نوع المتصفح : الهواية : المهنة : الجنس : الْمَشِارَكِات : 21381 العمر : 30 تاريخ التسجيل : 01/02/2009 السٌّمعَة : 751 نقاط : 1045433 توقيع المنتدى :
| موضوع: في المعرفة التاريخية ...تأسيس الفهم وتأصيل الهوية الثلاثاء يونيو 05, 2012 8:36 am | |
| في المعرفة التاريخية ...تأسيس الفهم وتأصيل الهوية في المعرفة التاريخية ...تأسيس الفهم وتأصيل الهوية
إن التاريخ ليس كما يُخيّل للبعض مجرد حروب تُشن ، أو معاهدات تُبرم ، أو سلالات تحكم ثم تسقط ، أو شخصيات تملأ سمع الزمان وبصره ثم يطويها الموت الزؤام فتصير ذكرى..
إنه قبل هذا وبعده خبرة حضارية ، ومشروع للتعامل مع الإنسان ، وفرصة لاختبار قدرة العقائد ومنظومات القيم على التحقق في الزمان و المكان ، فتؤكد على واقعيتها ومصداقيتها .
وعلى هذا فإن عرض تاريخنا لابد أن ينطلق مما لدينا من الحقائق التي تُظهر أصالتنا وقدرتنا على الإبداع والعطاء ، لا أن نتلهى بالنظر الغرير إلى مفاخرنا ، فيصدق علينا قول الشاعر :
ألهى بني تغلب عن كل مكرمة --* --* قصيدة قالها عمرو بن كلثوم
ومنذ عقود وقر في أذهان الآباء في ديارنا أن المعرفة التاريخية لا قيمة لها في ثقافة الأبناء ، وينسحب ذلك على معظم الفروع الإنسانية الأخرى ، دافعين أبناءهم صوب الفروع العلمية التطبيقية ؛ بدعوى أن المنتسبين إليها مستقبلهم مضمون ، ومكانة أصحابها في المجتمع أرفع ! .
وقد آن الأوان أن نُكفّر عن هذه الخطيئة المعرفية التي تجاوزتها المعرفة المعاصرة ، وصار الأخذ بها مما يثير الضحك والإشفاق معا !! . فنغري الأجيال الحاضرة بالإفادة من فرص التعليم الجامعي ، فنولي هذا النوع من المعارف اهتماما خاصا ، نُكوّن به جبهة قادرة على التحدي الحضاري، باحثة عن الرصيد الباقي القدير على الحضور في قلب العصر ، وموطئةً لمستقبل أفضل ، يعيد صياغة الإنسان ، ويحقق مطامحه ، ويقوي مناعته ، ضد الثقافة الهاجمة التي تسعى إلى سحبه من دينه وتراثه وثقافته .
وإن المعرفة التاريخية لا تعني التمسك بشرانق الماضي ، والتصلب على أفكار فوضوية ، وشعارات ساخنة ، وتعصبات لا أول لها ولا آخر ... بل هي تفتح الذهن على آفاق أرحب ، وتنأى بالدارس لها بعيدا عن التعصب والغلو والتطرف ، لأن في التاريخ وأزمانه المتلاحقة تعايشت الأفكار والعقائد والمذاهب ، وفي شواهده ما يثبت أن التطرف قصير النفس ، ضعيف الحجة ، منكور الجانب ، تمجُّه الفطر السليمة ، ويتهافت عبر الزمن ... ومن حق المدارس والجامعات اليوم أن تفكر في مستقبل أبنائها ، وتسعى جاهدة إلى التخطيط الجيد لإدماجهم في سوق العمل ، وكسب لقمة العيش ، وتأمين ضرورات الحياة ، ولكن الخطر يكمن في طبيعة المعرفة التقنية البحتة التي يتلقاها الطلاب بعيدا عن تأهيلهم للمساهمة في إيقاف التدهور الحاصل في المجتمع ، والإسفاف البيّن في القيم والمبادئ ...بالإضافة إلى جهل الأبناء بالرصيد التاريخي للمعارف والعلوم التي يتلقونها عبر مسيرة الحضارة الإسلامية ، من النشأة والتطوير إلى الإبداع والإضافة ، فيشعرون بالفخار والعزة ، وتنشط مواهبهم في ما نشط فيه أسلافهم ، ويضيفون كالذي أضافوا....وقد صدق من قال : " إذا أردت أن تعرف المستقبل فانظر إلى الماضي " .
والواقع أن صناعة الوعي بالتاريخ تجعل منه محركا دافعا للشعور القومي ، وموقظا للحس الوطني ، الذي تجهد الدولة الوطنية المعاصرة إلى إنمائه وترسيخه في مواجهة الأجنبي الدخيل الذي تنكر لتاريخنا وأمجادنا وحضارتنا ..وإليك في الجزائر خير مثال على هذا المسلك :
فقد كانت الفئة الواعية من النخب المثقفة والمؤرخين الأثبات يدركون أن مزاعم فرنسا من أن الجزائر ليس لها تاريخ ، وأنها جزء لا يتجزأ من فرنسا ، وأن الكتابات الفرنسية عن شمال إفريقيا والجزائر خاصة ، مثل كتابات " ستيفن غزال "( steven gzell )، واوغستان برنار"( augustain Bernard )...وأضرابهم ، كانت تسعى إلى نفي العروبة والإسلام والوطنية عن الجزائر ، فانبرت هذه الفئة إلى التصدي لهذا المسخ والتجهيل ، فوضعوا التآليف ، وصنفوا الكتب ، وكتبوا الأبحاث والمقالات ، ووضعوا المناهج في المدارس الحرة ..فألف محمد مبارك الميلي " تاريخ الجزائر في القديم والحديث " ، وكتب أحمد توفيق المدني كتاب " الجزائر " ، كما نشر عبد العزيز الثعالبي بحوثا عديدة عن تاريخ شمال إفريقيا وتاريخ العرب والمسلمين عموما ، وكتب عثمان الكعاك " موجز التاريخ العام للجزائر منذ العصر الحجري إلى الاحتلال الفرنسي " وجمع عبد الرحمن الجيلالي مصنفه الفذ حول " تاريخ الجزائر العام " ...
وقد ساهمت هذه الكتابات في إيقاظ الشعب من سباته ، وصناعة الوعي في قلبه وعقله ليدرك تراثه المسلوب ، ويرتبط بوطنه المحروب ، وينتفض لنصرة قضيته ، وتحرير بلده ، وتخليص نفسه من بين مخالب مستعمر متعصب كفور ..
وإن كنا نحسب أن هذه المنازعة في ساحات البقاء أمر طبيعي ومفهوم ، ولا يخلو من إيجابيات ، فالصراع يوجِدُ روح المقاومة ، والأمة التي لا تُنَازل غيرها تُصاب بالتأسن والترهل والانحلال ..ويتراجع إنتاجها الحضاري بشكل عام ! .
وفي تصوري أن المدافعة الثقافية مع الآخر في هذا الميدان لا تتحقق إلا باستحضار عنصرين أساسيين :
1 ـ إبراز قيمة الأحداث التاريخية بما تحمله من ثقل أشخاصها وأبطالها ومواقفها . 2 ـ حسن عرض هذا الرصيد المعرفي الهام بالوسائل المعاصرة التي تقرب من عقل الناشئة وقلوبها ، فتستوعبه وتعيه ، ثم تحبه ، وتفخر بالانتساب إليه وينشأ ما يسميه " أرنولد توينبي "( Arnold Joseph Toynbee ):" بمبدأ الأبوة والبنوة " أي تواصل الأجيال ، فإن الأبناء من دون تاريخ الآباء يعيشون لقطاء ، مقطوعي الصلة بماضيهم ، ذاهلين عن حاضرهم ، ويبقون فاشلين في صناعة مستقبلهم ، وصدق أمير الشعراء أحمد شوقي حين قال :
مثل القوم نسو تاريخهم --* --* كلقيط عيّ في الحي انتسابا
أو كمغلوب على ذاكرة --* --* يشتكي من صلة الماضي انقضابا
ولن يتم ذلك إلا بعد غربلة التاريخ ، وتخليصه من المبالغات والفذلكات والأكاذيب ، وعرضه عرضا ممحصا تنويريا يبعث على العمل لا على الفخر فحسب ، وينشط قارئه على القدوة لا على الذكرى ...، وهذا دور منوط بالمؤسسات الأكاديمية ، والمخابر العلمية ، والمجامع المتخصصة ، التي ينبغي أن تلقى الدعم والسند من الدولة والمجتمع على حد سواء .
ونحن اليوم في أمس الحاجة إلى بلورة منهج متميز نصوغ به التاريخ الذي لابسه الغموض والتداخل وسوء التناول ، فنُعدّ أعمالا تاريخية بنائية تفكر في التاريخ وتفسره ، وتمضي بالتدرج الجاد إلى الحسم والترجيح ، ويتم ذلك في أطر من الشخصية الإسلامية المطلوبة ، التي تجمع بين التأطُّر والانفتاح ، فليست بتلك الشخصية المنغلقة الحسيرة ، والساعية دوما إلى التقزم والانزواء ، ولا تهجس إلا بالخصوصيات ، ولا تحسن الخوض مع الآخر في شأن من شؤون العالم الذي نحن جزء منه ، كما أنها ليست بتلك العائمة الهائمة وراء موج هدّار من الثقافة المتدافعة ، تتسول ثقافة الآخر ، وتعيش على فتات موائد فكره ، دون أن يكون لها قرار من الخصوصية والمرجعية ، فهي وسط بين هذا وذاك .
مع الحرص على أن لا نستصحب معنا الشعور الدائم بالجبرية إزاء المخططات التي تُضبط ، والمؤامرات التي تُحاك ، فنصبح كأحجار الشطرنج يحركها غيرنا كما يشاء ، ومن ثم يعوقنا هذا الشعور عن النقد الذاتي لأنفسنا ومعرفة عللنا وأدوائنا ، والاجتهاد في تقصي أسبابها ، ومن ثم تشخيص ووصف الدواء الناجع لها .
وإذا استطعنا أن نصوغ فصول هذا التاريخ على نحو متوازن ، وبمنهجية سببية واستقصائية ذكية متقنة ، فإننا تؤسس لمعرفة تاريخية قادرة على تقديم الفهم الراقي ، وقديرة على التأصيل لهويتنا ووعينا ...وكرامتنا أيضا !!.
| |
|