لقد
منَّ الله عزّوجلّ على هذه الأُمّة بمنن عظيمة، ونعم كبيرة، ومواسم خير
كريمة لا تكاد تنقطع، فما يكاد المسلم يخرج من موسم إلا وينتظره آخر، وما
ينتهي من وظيفة إلا وتستقبله وظيفة.
ومن أجل تلك المواسم، وأعظم تلك الوظائف، موسم رمضان، ووظيفة الصيام والقيام فيه.
وقد
تعوّد كثير من المسلمين الإستعداد لرمضان بإعداد الموائد المليئة بأصناف
الطعام والشراب المتنوعة، والمبالغة في ذلك والتكلف لها، أهي إحتياجات
جسدية، ربّما كان ضررها على المراد من الصيام والقيام أكثر من نفعها،
وتفويتها لمقاصد الصيام والقيام أكثر من نفعها، وتفويتها لمقاصد الصيام
الحقيقية أرجح، وينسون أو يتناسون الإعداد الروحي، والتهيئة النفسية
والعقلية لمدارك أسباب الصيام وحكمة القيام.
فكيف يمكن للمسلم أن يتهيأ لهذا الشهر العظيم، وهذا الموسم الكريم، روحياً ونفسياً، وعقلياً؟
وما
الضرورات التي ينبغي أن يستقبل بها رمضان، ويتهيأ بها للصيام، والقيام،
وتلاوة القرآن، وحفظ الجوارح من الوقوع في الآثام، والإحسان إلى الفقراء،
والمساكين، من ذوي القربى وغيرهم من المحتاجين، والأرامل، والأيتام؟
- زاد رمضان المطلوب:
أهم
ما ينبغي أن يستقبل به المسلم شهر رمضان الكريم، ويعين على الصيام
والقيام، وما يجنب المبطلات الحقيقية التي تذهب بالأجر والثواب:
أوّلاً: التوبة من جميع الذنوب والآثام:
فالتوبة
هي وظيفة العمر، ومُحتاج إليها في كل وقت وحين، وحكمها الوجوب، وينبغي أن
يتوب العبد من جميع الذنوب، فإن تاب من بعضها وبقي على البعض الآخر قُبلت
توبته إذا توافرت شروطها.
وشروط التوبة: الإقلاع في الحال عن الذنب، والندم على ما فات، العزم على ألا يعود، ومفارقة قرناء السوء.
وإن
كان الذنب من حقوق الآدميين كالسرقة، وشهادة الزور، والغيبة، والنميمة،
ونحوها، فلابدّ من رد المظالم إلى أهلها، أو استسماحهم منها، وإن تعذر ذلك
فالإكثار من الدعاء والإستغفار لأصحابها.
ثانياً: إخراج الزكاة على من وجبت عليه وحال حَوْله أو اقترب:
1- لمضاعفة الأجر والثواب، وذلك لفضل الزمان وهو شهر رمضان.
2- ليتفرغ
الفقراء والمساكين والمحتاجون للصيام والقيام، لأن منهم من لا يتمكن من
أداء عمله، خاصة لو كان شاقاً وهو صائم، ففي إخراج الزكاة في رمضان عون له
على ذلك.
ولا
شك أن لكل مسلم شهر زكاة، ولكن يجوز أن تُقدَّم الزكاة عن شهرها إذا وجبت،
والأفضل ألا يكتفي الموسرون بإخراج الزكاة الواجبة، وإنّما عليهم أن
يزيدوا على ذلك وأن يتفضلوا على عباد الله كما تفضل الله عليهم، فمن لا
يَرْحم لا يُرْحم، وليتذكروا قوله (ص): "ما نقص مال من صدقة"، "وفي المال
حق سوى الزكاة".
ثالثاً: دراسة ومراجعة الأحكام المتعلقة بالصيام، والقيام، وصدقة الفطر:
كذلك
ينبغي أن ندرس أحكام الصيام والقيام، فما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب،
فمن وجب عليه الصيام وجب عليه وجوباً عينيناً أن يعلم ما لا يصح الصيام
إلا به، وأن يعلم مفسدات الصيام، وكيفية صلاة القيام، وأحكام صدقة الفطر،
متى تخرج؟ وعمن تخرج؟ ومن أي شيء تخرج؟
رابعاً: رد المظالم إلى أهلها أو استعفاؤهم منها:
فنقوم
برد الحقوق إلى أهلها ما استطعنا إلى ذلك سبيلاً، ومن مات منهم ردت إلى
ورثته، أو استعفاؤهم عنها، وإن تعذر كل ذلك فالإجتهاد في الدعاء
والإستغفار لأصحابها.
واعلم
أخي الكريم أن من أخطر الحقوق وأصعبها رداً الغيبة والنميمة وشهادة الزور،
ولهذا قال عبدالله بن المبارك: "لو كنتُ مغتاباً أحداً لاغتبتُ والدي"،
لأنّ القصاص يوم القيامة يكون بالحسنات، فإذا فنيت حسنات العبد أخذ من
سيِّئات مَن ظُلِم وحُطَّت على الظالم.
- خامساً: الخروج من الخصومات والمشاحنات:
كذلك
من أوجب الواجبات التي يجب علينا التخلص منها قبل حلول شهر الصيام التخلص
من الخصومات والمشاحنات والخروج منها، وصلة هؤلاء وطلب العفو والسماح
منهم، حيث لا يحل لمؤمن أن يهجر أخاه فوق ثلاثة أيام، إلا إن كان صاحب
بدعة أو فجور مجاهر بذلك، أما لحظوظ النفس فلا يحل ذلك، والمتخاصمان أكثر
من ثلاثة أيام لا يرفع لهما عمل حتى يتصالحا، سيما لو كان المخاصَمُ من
ذوي الأرحام والقرابات.
سادساً:
محاولة التفرغ من الأعمال الإضافية غير عمله الأصلي التي تضيع وقته أو يشق
معها الصيام، أو يصعب معها القيام، أو تشغله عن الذكر وتلاوة القرآن، قبل
حلول شهر رمضان، حتى يتفرغ لصيامه وقيامه، سيما لو كان رمضان في الصيف.
سابعاً: تعجيل القضاء والكفارة:
كذلك
ينبغي لمن كان عليه قضاء أو كفارة أن يتعجل قضاء ذلك قبل حلول رمضان، وإلا
يكون آثماً، إلا إذا كان المانع من ذلك عذراً شرعياً، وينبغي لأولياء
الأمور والأزواج أن ينبهوا زوجاتهم وبناتهم لذلك، فمن أخّر القضاء لغير
عذر فعليه القضاء والإطعام عن كل يوم مسكيناً مع الإثم وتكرار الكفارة،
والكفارة لا تكون إلا إطعاماً، أمّا نقداً فلا تصح ولا تجزئ، والله أعلم.
ثامناً: أن يعزم على أن يصوم ويقوم إيماناً وإحتساباً:
أن
يعزم على أن يصوم رمضان إيماناً وإحتساباً، وعلى أن يقوم لياليه كذلك
إيماناً وإحتساباً، حتى ينال الفضل والثواب الذي وَعَد به الصادق المصدوق،
وهو غفران ما تقدم من الذنوب.
تاسعاً: أن يصوم صيام مودع لرمضان:
كذلك
على المرء أن يصلي صلاة مودع، وأن يصوم، ويحج، صوم وحج مودع، لعله لا يدرك
رمضان القادم، فالعبادة عندما يؤديها العبد بهذه النية وبهذا الخوف يحافظ
عليها ويحتاط فيها أكثر، ويخشى من فسادها وضياعها، فالموت آتٍ وكل آتٍ
قريب، وهو أقرب إلى أحدنا من شراك نعله، وإذا تمكن هذا الشعور من قلب
المؤمن عوفي من الأدواء الخطيرة، وهي حب الدنيا، وطول الأمل، وكراهية
الموت.
عاشراً: إستقبال رمضان بالبهجة والسرور:
ينبغي
للمسلمين أن يستقبلوا رمضان بالبهجة، والسرور، والفرح، والحبور، كما
يستقبلون الغائب العزيز، والضيف الكريم. كذلك، ولا ينبغي أن ينظروا إليه
كضيف ثقيل، وزائر غير مرغوب فيه، وأن يستشعروا عظمته، ويستصحبوا فضائله،
ويتذكروا جوائزه، فإن ذلك يخفف الصعاب، ويقلل المشاق.
اللّهمّ
بلغنا رمضان، وأعنا على الصيام والقيام، واحفظ جميع جوارحنا من الوقوع في
الآثام، واجعلنا ممن يصومه ويقيم لياليه إيماناً وإحتساباً، وألا يكون
حظنا من الصيام الجوع والعطش، ولا من القيادة السهر والتعب، وصلى الله
وسلم وبارك على خير مَن صلى، وصام، واعتكف، وقام، محمد بن عبدالله وصحابته
وآله الكرام العظام، وعلى من اتبعهم بإحسان.