بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة :
الأستاذ عدنان:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين، أيها الأخوة والأخوات، السلام عليكم ورحمة الله، وأرحب بكم في برنامج:" مكارم الأخلاق" وباسمكم أرحب بفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي، أستاذ الإعجاز العلمي في الكتاب والسنة في كليات الشريعة وأصول الدين، أهلاً ومرحباً بكم دكتور.
الدكتور راتب:
بكم أستاذ عدنان جزاك الله خيراً.
الأستاذ عدنان:
دكتور كلمة الحرية كلمة واسعة الجوانب، والناس جميعاً يطلبونها، ومن أجلها تكون أشياء وأشياء في عالم الإنسان وهي متعددة الجوانب، لو ربطنا ذلك بمكارم الأخلاق ترى كيف تثمن مكارم الأخلاق بالحرية؟
مكارم الأخلاق كلها لا قيمة لها من دون حرية :
الدكتور راتب:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، أستاذ عدنان الله جلّ جلاله خالق السماوات والأرض بيده ملكوت كل شيء:
﴿ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ ﴾
[ سورة هود الآية: 123 ]
نحن في قبضته ومع ذلك قال في قرآنه الكريم:
﴿ لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ﴾
[ سورة البقرة الآية: 256 ]
أرادنا أن نأتيه طائعين، أرادنا أن نأتيه محبين، أراد أن نأتيه بمبادرة منا، أراد أن تكون العلاقة بيننا وبينه علاقة حب لا علاقة قهر، لا علاقة إكراه، لذلك ما كان لإنسان أن يطيع الله طاعة تسعده إلا أن يكون مختاراً في هذه الطاعة، فلذلك مكارم الأخلاق كلها لا قيمة لها من دون حرية.
الشيء لا قيمة له إلا إذا كان نابعاً من اختيار الإنسان وإرادته :
أرأيت إلى أن الله عز وجل منح نبيه خصائص كبيرة جداً، لكن حينما أثنى عليه أثنى على خلقه العظيم:
﴿ وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴾
[ سورة القلم الآية: 4]
أعطاه ذاكرة تفوق حدّ الخيال:
﴿ سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنسَى ﴾
[ سورة الأعلى الآية: 6 ]
أعطاه فصاحة في الدرجة الأولى:
(( أنا أفصح العرب بَيْد أني من قريش ))
[ أخرجه الطبراني عن أبي سعيد الخدري ]
أعطاه جمالاً، أعطاه كمالاً، أعطاه كل وسائل الرسالة، ولم يثنِ عليه بواحدة منها لكنه أثنى على أخلاقه لأنها من كسبه، فالشيء لا قيمة له إلا إذا كان نابعاً من اختيار الإنسان ومن إرادته، فلذلك قال تعالى:
﴿ وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴾
[ سورة القلم الآية: 4]
أرأيت لو أن إنساناً منح ابنه مركبة ثم أقام له حفلاً تكريمياً لهذه المركبة، شيء مضحك، أما إذا نال الدرجة الأولى في امتحان الشهادة يقيم له حفلاً تكريمياً لأن التفوق في المدرسة من جهد الابن، ومن كسبه، ومن عرقه وسهره، لذلك العمل إجمالاً لا قيمة له إطلاقاً من دون أن تكون حراً في اختيارك.
الحرية أساس لتقييم العمل :
كل من يفهم أن الإنسان مجبر على أعماله وقع في عقيدة فاسدة وخطيرة، ما أظن أن العالم الإسلامي شلت قدراته إلا بعقائد زائغة في مفهوم الحرية والإكراه، الله عز وجل قال:
﴿ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ ﴾
[ سورة الكهف الآية: 29]
﴿ إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً ﴾
[ سورة الإنسان الآية: 3]
فالحرية أساس لتقييم العمل، وما لم نكن أحراراً في اختيار أعمالنا الصالحة لا قيمة لها عند الله، أما إذا كنا مكرهين هذه الأعمال تسقط قيمتها، كما لو أنك شهرت على إنسان سلاح وقلت له: أعطني هذه الحاجة التي بيديك، يقدمها لك خوفاً على حياته، هل يرقى بهذا العمل؟ هل يحس أنه عمل عملاً عظيماً؟ يحس أنه قهر، أما إذا قدم إنسان لك هدية من عنده ابتداءً تقديراً لشيء قدمته له يرقى بهذا العمل، إذاً لا يمكن أن يقيّم عمل صالح من دون حرية كانت أساس تثمين هذا العمل.
الأستاذ عدنان:
ومن خلال هذه الناحية وكما تفضلتم وبينتم أن عبادة الإنسان لربه، وأن امتثاله لخالقه فيما شرع من شريعة دينية، ومن أوامر ونواه يغلفها جميعاً مبدأ الحرية، وبالتالي تكون المحبة، وشتان بين الامتثال من خلال المحبة والحرية و بين الإذعان للأمر المطلق، هذا ضمن أن مكارم الأخلاق تثمن بالحرية، إذا نزعنا هذه الحرية كيف تكون؟
الحرية أساس التكليف وأساس الثواب والعقاب وأساس الجنة والنار :
الدكتور راتب:
أستاذ عدنان شيء لا يصدق، بمعنى أنك إذا ألغيت حرية الإنسان ألغيت التكليف، ألغيت حمل الأمانة، ألغيت الثواب، ألغيت العقاب، ألغيت الجنة، ألغيت النار، ألغيت كل شيء وأصبحت الحياة تمثيلية سمجة، لو أجريت مسابقة وهيأت من يفحص المتسابقين، وأسئلة ذكاء، وأسئلة ثقافة عامة، وأسئلة اختصاصية، والذي سوف ينجح تعرفه مسبقاً، إذاً كل هذه التمثيلية تمثيلة سمجة لا معنى لها إطلاقاً، ما دام الإنسان مجبر على أعماله، هل تصدق أن مدير مدرسة يجمع الطلاب في أول يوم بالعام الدراسي ويتلو عليهم أسماء الناجحين في آخر العام، وأسماء الراسبين، ثم يقول لهم: انصرفوا إلى صفوفكم وادرسوا؟ شيء ليس له معنى إطلاقاً، إذا ألغيت الحرية ألغيت كل شيء في الدين، إذا ألغيت الحرية ألغيت الثواب والعقاب، ألغيت الجنة والنار، ألغيت التفوق، ألغيت الطاعة، ألغيت المعصية، ألغيت حمل الأمانة، ألغيت التكليف، بعضهم قال وأظنه الإمام الحسن رضي الله عنه:" لو أن الله أجبر عباده على الطاعة لبطل الثواب، ولو أجبرهم على المعصية لبطل العقاب، ولو أنه تركهم هملاً لكان عجزاً في القدرة، إن الله أمر عباده تخييراً ونهاهم تحذيراً، وكلف يسيراً ولم يكلف عسيراً، وأعطى على القليل كثيراً"، الحرية أساس التكليف، الحرية أساس الثواب والعقاب، الحرية أساس الجنة والنار، وهناك أدلة كثيرة.
الأستاذ عدنان:
أنتم بينتم في هذه الحالة الفرق بين النموذجين، مكارم الأخلاق مع الحرية، ومكارم الأخلاق مع سلب الحرية، كيف يكون الموقفان وشتان بينهما، لو قال قائل الإنسان ليس حراً ما الأدلة التي نجيب ونبين؟
أدلة من القرآن الكريم على أن الإنسان مخير و ليس مسيراً :
الدكتور راتب:
أستاذ عدنان هناك أدلة كثيرة جداً لكن الأصل في هذه الأدلة قول الله عز وجل:
﴿ سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ ﴾
[ سورة الأنعام الآية: 148]
هذه الآية أصل في الأدلة على أن الإنسان مخير، لا يقول أحد من الناس إن الإنسان مجبر
﴿ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا ﴾
نحن أشركنا لأن الله أرادنا أن نشرك، أي إنسان يقول بخلاف هذه الآية فهو مشرك:
﴿ سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ ﴾
آية ثانية:
﴿ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ ﴾
[ سورة الكهف الآية: 29 ]
آية ثالثة:
﴿ إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً ﴾
[ سورة الإنسان الآية: 3]
﴿ وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ ﴾
[ سورة البقرة الآية: 148 ]
هو على من تعود؟ لو أننا أعدناها كما يفهم بعضهم على الله عز وجل ما معنى قوله عز وجل:
﴿ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ ﴾
؟ أي لو أنك تجلس في المقعد الخلفي من السيارة، وقال لك أحدهم: اذهب نحو اليمين، كلام ليس له معنى، المقود ليس بيدك، تخاطب من بيده المقود، قال تعالى:
﴿ وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا ﴾
إذا الإنسان هو موليها فاستبقوا الخيرات، لو أن الله هو الذي يولي وجهة الإنسان لا معنى لقوله تعالى:
﴿ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ ﴾
هذا قرآن، هذا كلام خالق الأكوان.
الإنسان حينما يخطئ و يسقط يميل إلى التنصل من المسؤولية :
لذلك بنص القرآن الكريم الإنسان مخير:
﴿ سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا ﴾
هذه مقولة المشركين، أما التعليل النفسي أن الإنسان حينما يخطئ، وحينما يسقط، وحينما يتبع شهواته، وحينما يبني مجده على أنقاض الآخرين، يميل إلى التنصل من المسؤولية ويقول: إن الله قدر عليّ ذلك، ويقول العوام: هذا ترتيب رب العالمين، هذا كلام مرفوض أصلاً، وهو تخريف، وهو تزوير، وهو كذب، وهو أشد أنواع شكرا، الإنسان يميل إلى أن يلقي التبعة على غيره، أنا ما سمعت إنساناً بالأرض حقق إنجازاً كبيراً وقال: هذا قدره الله لي، يقول: أنا فعلته بجهدي، بعرقي، باجتهادي، بكد يميني، بسهري طوال الليل، أما إذا فعل فاحشة يقول: الله قدر عليّ ذلك، والإنسان إذا لم يؤمن، لم يصطلح مع الله، يقول: لم يشأ الله بعد، وكأن الأمر ليس بيده، مع أن الله عز وجل هدى عباده وانتهى الأمر، بقي عليهم أن يستجيبوا، كما لو أن إذاعة تبث بقي على المستمع أن يستقبل هذا البث، أما يقول: إلى أن تبث، البث قائم والإرسال مستمر بقي لك أن تستقبل هذا البث، الله عز وجل هدى الناس، فأدلة القرآن الكريم والسنة المطهرة كثيرة جداً في أن الإنسان محاسب عن أعماله:
"يا فاطمة بنت محمد، يا عباس عم رسول الله، أنقذا نفسيكما من النار، أنا لا أغني عنكما من الله شيئاً، لا يأتيني الناس بأعمالهم وتأتوني بأنسابكم، من يبطئ به عمله لم يسرع به نسبه".
الأستاذ عدنان:
دكتور هناك من خلال الذين تحدثت عنهم إنهم حين يخطئون أو يقصرون ينسبون ذلك إلى الله عز وجل من خلال أنه قدر عليهم كذا وكذا لكن هناك في بعض الأحيان مواقف أو أحداث يمكن أن يقال فيها بل أن يشم لا أن يقال من خلالها شيء من الإجبار لو تطرقنا إلى هذا.
الآيات المحكمات والآيات المتشابهات :
الدكتور راتب:
أستاذ عدنان في القرآن الكريم آيات محكمات وآيات متشابهات، الآية المحكمة لها معنى قطعياً واحداً لا يختلف على معناها اثنان في الأرض، لا تحتاج إلى تفسير، ولا إلى مجتهد، هذه الآيات المحكمات قطعية الدلالة، لكن هناك آيات متشابهات قال علماء الأصول: الآيات المتشابهات تحمل على الآيات المحكمات، الآيات المتشابهات مهما كثرت تحمل على الآيات المحكمات مهما قلت، كيف؟ لو أني قلت لك: القمح مادة خطيرة، ما معنى كلمة خطيرة؟ هل يعني قنبلة؟ القنبلة خطيرة، أم أنه مادة أساسية؟ أنا قلت: خطيرة هذه كلمة متشابهة، بعد قليل قلت: القمح مادة أساسية في حياة الإنسان، ما معنى خطيرة؟ أنها أساسية، فالآيات المتشابهات مهما كثرت تحمل على الآيات المحكمات مهما قلت، إذا قال الله عز وجل:
﴿ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا﴾
[ سورة الرعد الآية: 31 ]
إذا قال الله عز وجل:
﴿ وَلَوْ شِئْنَا لَآَتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا ﴾
[ سورة السجدة الآية: 13]
كأنه يشم من هذه الآية أن الله لم يشأ الهدى للناس، لكن هذه الآية متشابهة معناها: أنتم يا عبادي تنسبون أخطاءكم إلى القدر أنتم واهمون، لو أنني أجبرتكم على عمل ما لما أجبرتكم إلا على الهدى، لو أنني أردت أن آخذ منكم اختياركم، وأن ألغي هويتكم، وأن ألغي كل خصائصكم، لما أجبرتكم إلا على الهدى، ولو شئنا أن نسلب منكم اختياركم، وأن نلغي تكليفكم وحملكم للأمانة، وأجبرناكم على شيء ما، لما أجبرناكم إلا على الهدى"، مثلاً:
﴿ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ ﴾
[ سورة الصف الآية: 5 ]
إن عزي الإضلال إلى الله فهو الإضلال الجزائي المبني على ضلال اختياري :
حيثما عزي الإضلال إلى الله في القرآن الكريم، هو الإضلال الجزائي المبني على ضلال اختياري، تماماً كما لو أن طالباً لم يداوم إطلاقاً، ولم يقدم امتحاناً، جاءه إنذار أول وثان وثالث ورابع وخامس ولم يستجب، الآن صدر قرار بترقيم قيده، هذا القرار تجسيد لرغبته بعدم متابعة الدراسة، بالضبط، حيثما عزي الإضلال إلى الله فهو الإضلال الجزائي المبني على ضلال اختياري، يؤكد هذا المعنى قوله تعالى:
﴿ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ ﴾
[ سورة الصف الآية: 5 ]
إذاً أية آية في القرآن الكريم متشابهة أي تحتمل معنيين، لو أنني قلت لواحد من الناس: أعط زيداً ألفاً وخمسمئة ليرة، هذا الكلام محكم، قطعي الدلالة، لا يحتمل تأويلاً، ولا تفسيراً، ولا تعليلاً، ولا تعليقاً، ولا يحتاج إلى اجتهاد إطلاقاً، ولا يختلف على معنى هذا النص إنسانان في الأرض، أما إذا قلت: أعط فلاناً ألف درهم ونصفه، هنا إشكال، يا ترى أعطيه ألفاً وخمسمئة أم ألفاً ونصف؟ هذه اسمها عبارة ظنية الدلالة، لذلك إذا كان هناك آيات ظنية الدلالة تحتمل معنى الإكراه والتخيير، قال علماء الأصول: الآيات المتشابهة مهما كثرت تحمل على الآيات المحكمة مهما قلّت، لذلك إذا عزي الإضلال إلى الله فهو الإضلال الجزائي المبني على ضلال اختياري، دليله:
﴿ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ ﴾
[ سورة الصف الآية: 5 ]
﴿ لَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا ﴾
[ سورة الكهف الآية: 28]
قد نفهم هذه الآية فهماً خاطئاً، أغفلنا بمعنى وجدناه غافلاً لا بمعنى أننا وضعنا في قلبه الغفلة، وجدناه غافلاً، عاشرت الناس فما أجبنتهم، أي ما وجدهم جبناء، عاشرت هؤلاء القوم فما أبختلهم، أي ما وجدهم بخلاء:
﴿ وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا ﴾
[ سورة الكهف الآية: 28]
الأستاذ عدنان:
لا شك أن في تاريخنا العربي الإسلامي أحداث تؤكد الاختيار والحرية في مكارم الأخلاق وفي سواها لو استعرضنا شيئاً منها.
أحداث من تاريخنا العربي الإسلامي تؤكد الاختيار والحرية في مكارم الأخلاق :
الدكتور راتب:
سيدنا عمر بن الخطاب جاؤوا إليه بشارب خمر قال: أقيموا عليه الحد، قال: والله يا أمير المؤمنين قدر عليّ ذلك، قال: أقيموا عليه الحد مرتين؛ مرة لأنه شرب الخمر، ومرة لأنه افترى على الله، قال: ويحك يا هذا إن قضاء الله لن يخرجك من الاختيار إلى الاضطرار.
أنت مخير، سيدنا علي ـ رضي الله عنه ـ حينما قال لبعض من انتقده على مسيره إلى الشام، سأله واحد من الناس كان مسيرنا إلى الشام بقضاء من الله وقدر؟ قال: ويحك لو كان قضاءً لازماً وقدراً حاتماً إذاً لبطل الوعد والوعيد، ولانتهى الثواب والعقاب، إن الله أمر عباده تخييراً، ونهاهم تحذيراً، وكلف يسيراً، ولم يكلف عسيراً، وأعطى على القليل كثيراً.
الصحابة الكرام فهموا أن الإنسان مخير، وحينما تفهم الأمة أنها مسيرة وأنها مكرهة تشل حركتها، ويقوى عليها عدوها، وما من عقيدة فاسدة شلت حركة المسلمين في العالم كهذه العقيدة التي ليست من أصل الدين.
الأستاذ عدنان:
إذاً أستطيع أن أقول: إن الحرية موجودة وهي أساسية في حياة الناس جميعاً، ومكارم الأخلاق مرتبطة فيها ارتباطاً قوياً وثيقاً، وتظهر قيمة مكارم الأخلاق عندما يكون مبدأ الحرية موجوداً وقائماً، وهذا الأصل موجود من خلال إرادة الله عز وجل.
الأشياء التي ليس للإنسان إرادة فيها هي أكمل شيء لحاله :
الدكتور راتب:
لا بدّ من توضيح، أنت حر فيما كلفت فقط، لكنك لست حراً في أمك وأبيك، ولا في كونك ذكر أو أنثى، ولا في مكان ولادتك، ولا في زمن ولادتك، لكن العلماء قالوا: إن هذا الذي ليس لك إرادة فيه هو خير شيء لك، عبر عن هذا المعنى الإمام الغزالي فقال: "ليس في الإمكان أبدع مما كان"، أي ليس في إمكاني أبدع مما أعطاني.
الأشياء التي ليس لك إرادة فيها هي أكمل شيء لحالك، لذلك تنتهي علاقة الإنسان بكلمة واحدة مع الله:
﴿ وآخِرُ دَعْوَاهُمْ أنِ الحَمْدُ لِلَّه رَبّ العالَمِينَ ﴾
[ سورة يونس الآية: 10 ]
الأستاذ عدنان:
دكتور هذه في الحقيقة من إعجازات الخلق التي أرادها الله تعالى أن تكون فيهم من خلال أخلاقهم، من خلال تصرفاتهم، من خلال المكارم التي أرادها الله عز وجل أن تكون موجودة في تصرفاتهم، هذا يقودنا إلى باب كبير لتحدثنا عنه وترينا من خلاله الإعجازات الموجودة، والتي أرادها الله عز وجل في خلقه، وفي هذا الوجود يمكن أن نتابع شيئاً منها.
الموضوع العلمي :
ظاهرة التمويه عند المخلوقات :
الدكتور راتب:
الحقيقة نحن أمام ظاهرة هي ظاهرة التمويه عند المخلوقات، شيء عجيب، شيء معجز، إن الله تعالى خلق كل نوع من الكائنات الحية في الطبيعة بخصائص تميزه عن غيره، بحسب البيئة التي يعيش فيها يستخدم كل كائن هذه الخصائص الفطرية لحماية نفسه، أو للتربص بفريسته، فبعض الكائنات يخفي نفسه بتقنية تمويه عالية، وبعضها يتصنع ويمثل، وبعضها يسلك التكتيك الذكي.
التمويه واحد من عناصر الفن العسكري الذي لا يمكن الاستغناء عنه، فالقدرة على التخفي عن أعين العدو، والقدرة على الإخفاء أثناء هجوم العدو، مهمان إلى أقصى الدرجات، العجيب من هذا الأسلوب المسمى بالتمويه والذي يستلزم تحضيراً مفصلاً أنه ليس محصوراً لدى العقلاء، بل هو مستخدم أيضاً من قبل الحيوانات
الحيوانات التي تموه نفسها خلقت متناسقة تناسقاً تماماً مع البيئة التي وجدت فيها، و وضعت تحت حماية خاصة بألوانها ونقوشها وبنية أجسامها، حتى إن أجسام بعض الكائنات متناسقة مع بيئتها إلى حدٍّ يصعب تمييزها عن النباتات المحيطة بها.
عنكبوت مثلاً بنفس لون الزهرة التي يعيش عليها، حية تثبت دون حركة كأنها غصن من أغصان الشجرة، حشرة لها جناح بنفس لون الأوراق اليابسة، ضفدعة تأخذ شكل محيطها ولونها، هذه كلها نماذج صارخة للتمويه في الطبيعة تظهر أن التمويه وجد بطريقة خاصة.
بعض الكائنات لها ألوان ونقوش تتناسب مع الغطاء النباتي المنتشر في الوسط الذي تعيش فيه
على سبيل المثال ليس من السهل تمييز نمر يختفي بين الأعشاب المصفرة. الأسود خلقت من لون المراعي التي تعيش فيها، وتختبئ بسهولة بين هذه الأعشاب، تتسلل إلى فريستها شيئاً فشيئاً كجندي مموه، والفهد كذلك بفضل تمويهه يتربص بفريسته دون أن تشعر، وعندما تشعر به يكون قد فات الأوان.
التمويه الذي يسلكه الحيوان من آيات الله الدالة على عظمته :
الحقيقة من آيات الله الدالة على عظمته هذا التمويه الذي يسلكه الحيوان ليحمي نفسه من عدوه أو ليقتنص فريسته التي يعيش عليها، هناك شواهد كثيرة لهذا التمويه تأخذ بالألباب.
وفي كل شيء له آيةتدل على أنه واحد
* * *
والله عز وجل جعل هذا الكون كله مظهراً لأسمائه الحسنى وصفاته الفضلى، في القطب مثلاً يعيش قريباً من القطب في أبرد مناطق العالم كائنات ماهرة في فن التمويه، بعد قليل نبحث عن قابلية الطائر الخارقة للتمويه الذي كان سبباً في بقائه في هذا الإقليم. طائر يعيش في القطب لونه أبيض كالثلج تماماً لا تراه وهو على غصن شجرة غطيت بالثلج.
الموسم الآن الخريف مكان صخري تساقطت عليه الثلوج، وطائران قطبيان مختفيان هنا، هل بإمكانكم رؤيتهما؟ إنهما هنا، يكاد من المستحيل أن تميزهما في الطبيعة التي يعيشان فيها، لوجود تمويه تام في ريشهما، يقلدان به الأرضية الطبيعية، والآن لندقق أكثر، طبقات الثلج هذه نسخة مطابقة لريش الطائر الأبيض، والأرضية الترابية الظاهرة بين الثلوج أيضاً رسمت بعناية على ريش الطائر، الأرضية ومظهر الطائر يكاد يكون تمييزهما مستحيلاً.
أكبر سلاح يملكه الطائر في القطب أنه مموه :
أكبر سلاح يملكه الطائر في القطب أنه مموه، لون ريشه كلون الثلج، الموسم شتاء، الثلج يغطي كل مكان، يحصل تغير معجز في جسم الطائر القطبي، يزول لون ريشه الداكن كلياً يكاد يستحيل تمييز الطائر من الثلوج، والطائر لا علم له بهذا التغيير ولكن جسمه موه بشكل عام، وأما الريش الأسود المحيط بالعين فيحفظها من الإشعاعات المعاكسة التي تأتي من الثلج، حتى يرى طريقه لا بدّ من ريش أسود تمنع عنه إشعاعات الشمس المنعكسة على سطح الثلج.
الآن الموسم ربيع بدأت الثلوج بالذوبان، بين الثلوج الذائبة تخضر النباتات، وأما ريش الطائر القطبي فيظهر ريش جديد بلون النباتات، كل مظاهر التمويه الخارقة تحتاج إلى تفسير طبعاً، يستحيل على الطائر القطبي بالتأكيد تعيين لون ريشه حسب وسطه الذي يعيش فيه، فهو لا يملك ذلك العقل الذي يعرف به الفائدة التي يجنيها التمويه، إذاً فمن أعطى هذا الطائر قابلية التمويه الفائقة؟ من يعرف احتياج الطائر إلى تمويه خاص بكل موسم؟ من هذا الرسام الذي رسم على ريشه نقش البيئة ولونها؟ هذه الأسئلة توصلنا إلى حقيقة واحدة هي أن هذا الطائر خلقه الله تعالى وهو الذي وهبه الميزات التي هو عليها.
وفي كل شيء له آية تدل على أنه واحد
* * *
الحقيقة أن هذه الآيات دالة على عظمة الله، وأصل الدين معرفته، والتفكر في خلق السماوات والأرض أوسع باب ندخل منه على الله، وأقصر طريق إلى الله.
خاتمة و توديع :
الأستاذ عدنان:
في ختام هذا اللقاء كل الشكر لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي، أستاذ الإعجاز العلمي في الكتاب والسنة في كليات الشريعة و أصول الدين، وكل الشكر أيضاً للأخوة المشاهدين.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
والحمد لله رب العالمين