الشيخ محمد البشير الإبراهيمي:
مولوده ونشأته
منذ عشرات القرون والعالم العربي والإسلامي محط أطماع كثير من الدول الاستعمارية المتربصة به، والتي استهدفت دائما تفكيك أوصاله واستنزاف ثرواته، ونجحت أغلب تلك المحاولات الاستعمارية العديدة المنظمة في أن تفرض سيطرتها وتبسط نفوذها وهيمنتها على بعض أقطار الوطن العربي والإسلامي في فترات متفاوتة من تاريخ الأمة العربية والإسلامية عبر مسيرة تاريخها الطويل، ولكن إرادة التحرر وعزيمة أبناء تلك الأمة كانت دائما تنتصر على أطماع الغزاة والمستعمرين مهما طال الزمان، وكان الله يقيض لهذه الأمة روادا من بين أبنائها يبعثون فيها روح الجهاد، ويشعلون فيها إرادة المقاومة حتى تنتصر على أعدائها وتستعيد حريتها وكرامتها، وتملك زمام أمرها من جديد.
وكان "محمد البشير الإبراهيمي" واحدا من هؤلاء الرواد والزعماء الذين أشعلوا تلك الجذوة في نفوس أبناء أمتهم، وساهموا في رفع راية الجهاد ضد الاستعمار في أوطانهم، وفي إيقاظ الوعي بين أبناء أمتهم حتى تحقق لها النصر وتحررت من أغلال الاستعمار البغيض.
لقد كان "البشير الإبراهيمي" حلقة من حلقات الجهاد الطويل في الجزائر ضد الاستعمار الفرنسي، وأحد الذين شكلوا وعي ووجدان الأمة العربية والإسلامية على امتداد أقطارها؛ حيث كان أحد رواد الحركة الإصلاحية في "الجزائر"، وأحد مؤسسي "جمعية العلماء المسلمين الجزائريين"، وكان زميلا للشيخ "عبد الحميد بن باديس" في قيادة الحركة الإصلاحية، ونائبه في رئاسة جمعية العلماء، ورفيق نضاله لتحرير عقل المسلم من الخرافات والبدع.
ولد "محمدالبشيرالإبراهيمي" فيقرية (أولادإبراهيم) برأس الوادي قرب "سطيف"غربيمدينةقسنطينة مع بزوغ شمس (13من شوال 1306هـ= 14 منيوليو/جوان1889م)، وهي السنة التي ولد فيها كل من الشيخ عبد الحميد بن باديس والشيخ الطيب العقبي والدكتور طه حسين والأديب المفكر عباس محمود العقاد وغيرهم من العلماء والعباقرة الأفذاذ، ونشأ في بيتكريممنأعرق بيوتاتالجزائر؛حيث يعود بأصوله إلىالأدارسةالعلويين من أمراءالمغربفيأزهى عصوره.
حفظ "البشير" القرآن الكريم وهو ابن تسع سنوات، ودرس علوم العربية على يد عمهالشيخ "محمد المكي الإبراهيمي"، وكان عالم الجزائر لوقته، انتهت إليه علوم النحووالصرفوالفقه في الجزائر، وصار مرجع الناس وطلاب العلم، وقد عني بابن أخيه عنايةًفائقةً،وفتح له أبوابًا كثيرةً في العلم، حتى إنه ليحفظ قدرًا كبيرًا من متوناللغة،وعددًا من دواوين فحول الشعراء، ويقف على علوم البلاغة والفقه والأصول، لماماتعمه تصدَّر هو لتدريس ما تلقاه عليه لزملائه في الدراسة، وكان عمره أربعة عشرعامًا.
ولمابلغ "البشير" الثاني والعشرين من عمره ولَّى وجهه نحو المدينةالمنورةسنة (1330هـ= 1911م)؛ ليلحق بأبيه الذي سبقه بالهجرة إليها منذ أربع سنواتفرارًامن الاحتلال الفرنسي، ونزل في طريقه إلى القاهرة، ومكث بها ثلاثة أشهر، حضرفيهادروس بعض علماء الأزهر الكبار، من أمثال "سليم البشرى"، و"محمد نجيب المطيعي"،ويوسفالدجوي، وزار دار الدعوة والإرشاد التي أسسها الشيخ "رشيد رضا"، والتقيبالشاعرينالكبيرين "أحمد شوقي" و"حافظ إبراهيم".
وفيالمدينة المنورة استكمل "البشير" العلم في حلقات الحرمالنبوي،واتصل بعالمين كبيرين كان لهما أعظم الأثر في توجيهه وإرشاده، أما الأولفهوالشيخ "عبد العزيز" الوزير التونسي، وأخذ عنه (موطأ مالك)، ولزم دروسه في الفقهالمالكي،وأما الثاني فهو الشيخ "حسين أحمد الفيض آبادي الهندي"، وأخذ عنه شرح صحيحمسلم،واستثمر "البشير" وقته هناك، فطاف بمكتبات المدينة الشهيرة، مثل: مكتبة شيخالإسلامعارف حكمت، والسلطان محمود، ومكتبة آل المدني، ووجد في محفوظاتها الكثيرةماأشبع نهمه العلمي.
وفيأثناء إقامته بالمدينة التقى بالشيخ "عبد الحميد بنباديس"، الذي كان قد قدم لأداء فريضة الحج، وقد ربطت بينهما المودة ووحدة الهدفبرباطوثيق، وأخذا يتطلعان لوضع خطة تبعث الحياة في الأمة الإسلامية بالجزائر،وانضمإليهما "الطيب العقبي"؛ وهو عالم جزائري سبقهما في الهجرة إلى المدينة،والتقىالثلاثة في أيام متصلة ومناقشات جادة حول وضع الجزائر وسبل النهوض بها،فوضعواالأسس الأولى لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين.