صيام شعبان (1-2)
مما يشرع في شهر شعبان الإكثار من الصيام، وكان النبي صلى الله عليه و سلم
يصوم من شعبان ما لا يصوم من غيره من الشهور، ففي الصحيحين عن عائشة رضي
الله عنها قالت : ( ما رأيت رسول الله صلى الله عليه و سلم استكمل صيام
شهر قط إلا رمضان وما رأيته في شهر أكثر صياما منه في شعبان ) زاد البخاري
في رواية : ( كان يصوم شعبان كله ) ولمسلم في رواية : (كان يصوم شعبان
كله، كان يصوم شعبان إلا قليلا ) و في رواية النسائي ( عن عائشة قالت :
كان أحب الشهور إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يصوم شعبان، كان
يصله برمضان ) وعنها وعن أم سلمة قالتا : ( كان رسول الله صلى الله عليه و
سلم يصوم شعبان إلا قليلا، بل كان يصومه كله ) رواه الترمذي، وروى أيضا عن
أم سلمة قالت : ( ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم شهرين
متتابعين إلا شعبان ورمضان ) .
وخرج الإمام أحمد و النسائي من حديث أسامة بن زيد قال : ( كان رسول الله
صلى الله عليه وسلم يصوم الأيام يسرد حتى نقول لا يفطر ويفطر الأيام حتى
لا يكاد يصوم إلا يومين من الجمعة إن كانا في صيامه و إلا صامهما و لم يكن
يصوم من الشهور ما يصوم من شعبان فقلت يا رسول الله إنك تصوم حتى لا تكاد
تفطر وتفطر حتى لا تكاد تصوم إلا يومين إن دخلا في صيامك وإلا صمتهما ؟
قال : ( أي يومين ) قلت : يوم الاثنين ويوم الخميس قال : ( ذانك يومان
تعرض فيهما الأعمال على رب العالمين وأحب أن يعرض عملي وأنا صائم ) قلت :
ولم أرك تصوم من الشهور ما تصوم من شعبان ؟ قال : ( ذاك شهر يغفل الناس
عنه بين رجب ورمضان وهو شهر ترفع الأعمال فيه إلى رب العالمين عز وجل فأحب
أن يرفع عملي و أنا صائم ) .
وقد رجح طائفة من العلماء منهم ابن المبارك وغيره : أن النبي صلى الله
عليه و سلم لم يستكمل صيام شعبان وإنما كان يصوم أكثره ويشهد له ما في
صحيح مسلم ( عن عائشة رضي الله عنها قالت : ما علمته تعني النبي صلى الله
عليه و سلم صام شهرا كله إلا رمضان ) وفي رواية له أيضا عنها قالت : ( ما
رأيته صام شهرا كاملا منذ قدم المدينة إلا أن يكون رمضان ) وفي رواية له
أيضا أنها قالت : (لا أعلم نبي الله صلى الله عليه وسلم قرأ القرآن كله في
ليلة ولا صام شهرا كاملا غير رمضان ) وفي رواية له أيضا قالت : ( ما رأيته
قام ليلة حتى الصباح ولا صام شهرا متتابعا إلا رمضان ) وفي الصحيحين ( عن
ابن عباس قال : ما صام رسول الله صلى الله عليه و سلم شهرا كاملا غير
رمضان ) وكان ابن عباس يكره أن يصوم شهرا كاملا غير رمضان، وروى عبد
الرزاق في كتابه عن ابن جريج عن عطاء قال : كان ابن عباس ينهى عن صيام
الشهر كاملا ويقول : ليصمه إلا أياما، وكان ينهي عن إفراد اليوم كلما مر
به، وعن صيام الأيام المعلومة وكان يقول : لا تصم أياما معلومة .
فإن قيل : فكيف كان النبي صلى الله عليه و سلم يخص شعبان بصيام التطوع
فيه مع أنه قال : ( أفضل الصيام بعد شهر رمضان شهر الله المحرم ) ؟
فالجواب : أن جماعة من الناس أجابوا عن ذلك بأجوبة غير قوية لاعتقادهم أن
صيام المحرم و الأشهر الحرم أفضل من شعبان كما صرح به الشافعية وغيرهم،
والأظهر خلاف ذلك وأن صيام شعبان أفضل من صيام الأشهر الحرم ويدل على ذلك
ما خرجه الترمذي من حديث أنس سئل النبي صلى الله عليه و سلم : ( أي الصيام
أفضل بعد رمضان ؟ قال : (شعبان تعظيما لرمضان ) وفي إسناده مقال، وفي سنن
ابن ماجه ( أن أسامة كان يصوم الأشهر الحرم فقال له رسول الله صلى الله
عليه وسلم : ( صم شوالا ) فترك الأشهر الحرم فكان يصوم شوالا حتى مات و في
إسناده إرسال، وقد روي من وجه آخر يعضده فهذا نص في تفضيل صيام شوال على
صيام الأشهر الحرم وإنما كان كذلك لأنه يلي رمضان من بعده كما أن شعبان
يليه من قبله وشعبان أفضل لصيام النبي صلى الله عليه وسلم له دون شوال
فإذا كان صيام شوال أفضل من الأشهر الحرم فلأن يكون صوم شعبان أفضل بطريق
الأولى، فظهر بهذا أن أفضل التطوع ما كان قريبا من رمضان قبله وبعده و ذلك
يلتحق بصيام رمضان لقربه منه وتكون منزلته من الصيام بمنزلة السنن الرواتب
مع الفرائض قبلها وبعدها فيلتحق بالفرائض في الفضل و هي تكملة لنقص
الفرائض وكذلك صيام ما قبل رمضان و بعده؛ فكما أن السنن الرواتب أفضل من
التطوع المطلق بالصلاة فكذلك صيام ما قبل رمضان وبعده أفضل من صيام ما بعد
منه ويكون قوله صلى الله عليه وسلم : ( أفضل الصيام بعد رمضان المحرم )
محمولا على التطوع المطلق بالصيام، فأما ما قبل رمضان وبعده فإن يلتحق به
في الفضل كما أن قوله في تمام الحديث ( وأفضل الصلاة بعد المكتوبة : قيام
الليل ) إنما أريد به تفضيل قيام الليل على التطوع المطلق دون السنن
الرواتب عند جمهور العلماء خلافا لبعض الشافعية و الله أعلم فإن قيل : فقد
قال النبي صلى الله عليه و سلم : ( أفضل الصيام صيام داود كان يصوم يوما
ويفطر يوما ) ولم يصم كذلك بل كان يصوم سردا ويفطر سردا ويصوم شعبان وكل
اثنين وخميس ؟ قيل : صيام داود الذي فضله النبي صلى الله عليه و سلم على
الصيام قد فسره النبي صلى الله عليه و سلم في حديث آخر بأنه صوم شطر الدهر
و كان صيام النبي صلى الله عليه و سلم إذا جمع يبلغ نصف الدهر أو يزيد
عليه و قد كان يصوم مع ما سبق ذكره يوم عاشوراء أو تسع ذي الحجة و إنما
كان يفرق صيامه ولا يصوم يوما و يفطر يوما لأنه كان يتحرى صيام الأوقات
الفاضلة ولايضر تفريق الصيام والفطر أكثر من يوم ويوم إذا كان القصد به
التقوى على ما هو أفضل من الصيام من أداء الرسالة و تبليغها والجهاد عليها
والقيام بحقوقها فكان صيام يوم و فطر يوم يضعفه عن ذلك و لهذا سئل النبي
صلى الله عليه و سلم في حديث أبي قتادة عند مسلم عمن يصوم يوما و يفطر
يومين ؟ قال : ( وددت أني طوقت ذلك ) وقد كان عبد الله بن عمرو بن العاص
لما كبر يسرد الفطر أحيانا ليتقوى به على الصيام ثم يعود فيصوم ما فاته
محافظة على ما فارق عليه النبي صلى الله عليه و سلم من صيام شطر الدهر
فحصل للنبي صلى الله عليه و سلم أجر صيام شطر الدهر وأزيد منه بصيامه
المتفرق وحصل له أجر تتابع الصيام بتمنيه لذلك و إنما عاقه عنه الاشتغال
بما هو أهم منه و أفضل و الله أعلم .
وقد ظهر بما ذكرناه وجه صيام النبي صلى الله عليه و سلم لشعبان دون غيره
من الشهور وفيه معان أخر : وقد ذكر منها النبي في حديث أسامة معنيين :
أحدهما : ( أنه شهر يغفل الناس عنه بين رجب ورمضان ) يشير إلى أنه لما
اكتنفه شهران عظيمان الشهر الحرام وشهر الصيام اشتغل الناس بهما عنه فصار
مغفولا عنه، وكثير من الناس يظن أن صيام رجب أفضل من صيامه لأنه شهر حرام
وليس كذلك، وروى ابن وهب عن عائشة قالت : ذكر لرسول الله ناس يصومون رجبا
؟ فقال : ( فأين هم عن شعبان ) ورواه عبد الرزاق عن زيد بن أسلم مرسلا .
وفي قوله: ( يغفل الناس عنه بين رجب ورمضان ) إشارة إلى أن بعض ما يشتهر
فضله من الأزمان أو الأماكن أو الأشخاص قد يكون غيره أفضل منه إما مطلقا
أو لخصوصية فيه لا يتفطن لها أكثر الناس، فيشتغلون بالمشهور عنه ويفوتون
تحصيل فضيلة ما ليس بمشهور عندهم، وفيه دليل على استحباب عمارة أوقات غفلة
الناس بالطاعة وأن ذلك محبوب لله عز وجل كما كان طائفة من السلف يستحبون
إحياء ما بين العشاءين بالصلاة ويقولون : هي ساعة غفلة و لذلك فضل القيام
في وسط الليل لشمول لغفلة لأكثر الناس فيه عن الذكر وقد قال النبي صلى
الله عليه و سلم : ( إن استطعت أن تكون ممن يذكر الله في تلك الليلة فكن )
ولهذا المعنى كان النبي صلى الله عليه وسلم يريد أن يؤخر العشاء إلى نصف
الليل و إنما علل ترك ذلك لخشية المشقة على الناس ولما خرج على أصحابه وهم
ينتظرونه لصلاة العشاء قال لهم : ( ما ينتظرها أحد من أهل الأرض غيركم )
رواه الشيخان، وفي هذا إشارة إلى فضيلة التفرد بذكر الله في وقت من
الأوقات لا يوجد فيه ذاكر له ولهذا ورد في فضل الذكر في الأسواق ما ورد من
الحديث المرفوع و الآثار الموقوفة حتى قال أبو صالح : إن الله ليضحك ممن
يذكره في السوق وسبب ذلك أنه ذكر في موطن الغفلة بين أهل الغفلة .
المصدر شبكة السنة النبوية وعلومها وللموضوع بقية نتناولها في الحلقة القادمة إن شاء الله تعالى