الرياح والاعاصير للشيخ محمد الفيفي
... أما بعدُ:
أيها
المسلمون! فقد جرتْ سنةُ اللهِ عز وجلَّ في عبادِه أنْ يُعاملَهم بحسب
أعمالِهم؛ فإذا اتَّقى الناسُ ربَّهم الذي خلقهم ورزقهم؛ أنزلَ عليهم
البركاتِ مِنَ السماءِ، وأخرج لهمُ الخيراتِ مِنَ الأرض، كما قال سبحانه:
{وَلَوْ
أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ
بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} [الأعراف: 96]، وقال تعالى:
{وَأَنْ
لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا}
[الجن: 16]. وإذا تمرَّد العبادُ على شرعِ اللهِ، وفَسقوا عن أمرِه؛ أتاهم
العذابُ والنَّكالُ مِنَ الكبيرِ المتعالِ. فإذا كان العبادُ مُطيعين للهِ
عز وجل، مُعظِّمين لِشَرْعِه؛ أغدق عليهم النِّعَمَ، وأزاح عنهم
النِّقَمَ، وإذا تبدَّل حالُ العبادِ مِنَ الطاعةِ إلى المعصيةِ، ومِن
الشكرِ إلى الكفرِ؛ حلَّتْ بهمُ النقمُ، وزالت عنهمُ النِّعمُ.
فكُلُّ
ما يحصلُ للعبادِ مِنْ مِحَنٍ، وكوارثَ ومَصائبَ؛ فبما كسبتْ أيديهم
ويَعفو عن كثيرٍ؛ كما قال تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ
فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى: 30].
إنَّ
ما نشاهده مِنْ هذه الآياتِ الكونيةِ؛ لهي آيةٌ مِنْ آياتِ الله تَجعلُ
المؤمنَ متَّصِلاً باللهِ، ذاكِراً له شاكرًا لِنِعَمِه، مُستجيرًا به
خائفًا مِن نِقمَتِه وسَخَطِه. [منقول من الساحات]. قال عز وجل:
{كَأَيِّنْ مِنْ آَيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ
عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ} [يوسف: 105]؛ أي: لا يتفكَّرون
فيها ولا يَعتَبِرون بها.
عبادَ اللهِ! إنَّ مِنْ نِعَمِ الله
علينا هذا الهواءُ الذي نتنفَّسُه، ولشدَّةِ الحاجةِ اليه؛ جعله اللهُ
مبذولا مُتاحًا للمخلوقاتِ في كلِّ مكانٍ وبدونِ ثمنٍ أو مالٍ، ولكنْ
عندما يتلوَّثُ هذا الهواءُ بالقَدْرِ الذي لا يُمكنُ الإفادةُ منه؛ فإنَّ
حالَ الناسِ تُصبحُ صعبةً وحَرِجَةً تصلُ ربما الى حالاتٍ مِنَ الإغماءِ
أوِ الاختناقِ.
وقد توالتْ علينا في هذه الأيامِ رياحٌ شديدةٌ
مصحوبةٌ بأتربةٍ كثيفةٍ تَأذَّى منها الناسُ وتضرَّروا، وبانَ عَجزُهُمْ
عن ردِّها ودفعِ ضَرَرِها، حتى بإغلاقِ الأبوابِ والنوافذِ! فهي تصلُ
لكلِّ مكانٍ ولو كان مُغلَقاً.
أيها المؤمنون! إنَّ الريحَ جُندٌ
مِن جنودِ اللهِ تعالى التي لا يُقاوِمُها شيءٌ، فإذا خرجتْ عن سرعتِها
المعتادةِ -بإذنِ ربِّها-؛ دمَّرتِ المدُنَ وهدَّمَتِ المباني، واقتلعتِ
الأشجارَ، وصارتْ عذابًا على مَنْ حلَّتْ بِدارِهِمْ.
فلما عَتا قومُ عادٍ وقالوا: {مَنْ أشَدُّ مِنَّا قُوَّةً} [فصلت: 15]؛ أرسلَ اللهُ عليهمُ الريحَ العقيمَ، فقال جلَّ وعلا:
{وَفِي
عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ- مَا تَذَرُ مِنْ
شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ} [الذاريات:
41-42]، قال البغويُّ: هي التي لا خَيرَ فيها ولا بركةَ ولا تُلقِّحُ
شَجرًا ولا تَحمِلُ مَطرًا، ما تذر مِن شيءٍ أتتْ عليه مِنْ أنفُسِهم
وأنْعامِهِمْ ومَواشيهمْ وأمْوالِهم إلا جعلتْه كالرَّميمِ؛ أي كالشيءِ
الهالكِ البالي، وهو نباتُ الأرضِ إذا يَبُسَ ودِيسَ. قال مجاهدٌ:
كالتِّبنِ اليابِسِ. [تفسير البغوي ج4/ص233)]. وقد سمَّاها اللهُ تعالى
(عاتيةً) في قولِه: {وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ
عَاتِيَةٍ} [الحاقة: 6]، قال المفسِّرون: عَتتْ عليهمْ بغيرِ رحمةٍ ولا
بركةٍ. وقيل: عتتْ على الخزنةِ فخرجتْ بغيرِ حسابٍ.
كيف لا؟! وهي
جُندٌ مِن جنودِ اللهِ يَنصُرُ بها مَن يشاءُ مِن عبادِه المؤمنينَ كما
حصل في غزوةِ الخندقِ. قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا
اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ
فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ
اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا} [الأحزاب: 9]. روى ابنُ أبي نجيحٍ عن
مجاهدٍ قال: هي الصَّبا كَفأتْ قُدورَهم ونَزعتْ فَساطِيطَهم (خِيامَهم)
حتى أظْعَنَتْهُم. [(معاني القرآن - النحاس ج5/ص328 )]. وأخرج البخاريُّ
ومسلمٌ وغيرُهما مِن حديثِ ابنِ عباسٍ قال: قال رسولُ اللهِ -صلى الله
عليه وسلم-: " نُصِرتُ بالصَّبا، وأُهلِكَتْ عادٌ بالدَّبور "، والصَّبا:
هي الرِّيحُ الشرقيةُ، والدَّبورُ: هي الريحُ الغربيةُ. [شرح النووي 6 \
198)].
وعن عائشةَ -رضي الله عنها- قالت: (كان رسولُ اللهِ -صلى
الله عليه وسلم- إذا كان يومُ الريحِ والغَيْمِ؛ عُرِفَ ذلك في وجْهِه،
وأقْبَلَ وأدْبَر. فإذا مطرتْ؛ سُرَّ به، وذهب عنه ذلك). قالت
عائشةُ: (فسألتُه، فقال: " إنِّي خَشيتُ أنْ يكونَ عذابًا سُلِّطَ
على أمَّتِي ") [رواه مسلم]. وكان النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- إذا
عَصفتِ الريحُ قال: " اللهم! إنِّي أسألك خَيرَها، وخيرَ ما فيها،
وخيرَ ما أرسِلَتْ به، وأعوذُ بك مِن شرِّها، وشرِّ ما فيها، وشرِّ ما
أُرسِلَتْ به " [رواه مسلم]. وقد قال اللهُ عن قومِ صالحٍ عندما أرسلَ
عليهمُ الريحَ: {فلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ
قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ
رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ} [الأحقاف: 24]، فلم يَظُنُّوا في السحابةِ
التي أظلَّتْهمْ سِوى أنها ظاهرةٌ كونيَّةٌ قد تتسبَّبُ في نُزولِ المطرِ،
خاصةً وأنهم كانوا مُمْحِلينَ مُحتاجِين إلى المطرِ. ولكنْ؛ لم تكنْ هذه
الغمامةُ سِوى العذاب!
ونقل ابنُ كثيرٍ في تفسيرِه: عن عبدِ الله
بنِ عمرٍو قال: (الرياحُ ثمانيةٌ: أربعةٌ منها رحمةٌ، وأربعةٌ منها عذابٌ.
فأما الرحمةُ: فالنَّاشِراتُ والمبَشِّراتُ والمرْسَلاتُ والذارِياتُ.
وأما العذابُ: فالعقيمُ والصرْصَرُ -وهما في البَرِّ-، والعاصِفُ
والقاصِفُ -وهما في البحرِ-، فإذا شاءَ سبحانه وتعالى حَرَّكهُ بِحرَكةِ
الرحمةِ؛ فجعله رُخاءً ورحمةً وبُشرَى بين يدَيْ رحمتِه ولاقِحًا
للسَّحابِ تُلقِّحُهُ بِحملِه الماءَ كما يُلقِّحُ الذكرُ الأنثى
بالحَمْلِ. وإن شاءَ حرَّكه بِحركةِ العذابِ؛ فجعله عقيمًا وأودَعَهُ
عذابًا أليمًا، وجعله نِقمةً على مَن يشاءُ مِن عبادِه؛ فيَجعلُهُ
صَرْصَرًا وعاتِيًا ومُفسِدًا لِما يَمُرُّ عليه) [(تفسير ابن كثير
ج3/ص438)].
أيها المسلمون! كما أنَّ الرياحَ جندٌ مِن جُنودِ اللهِ
يُسلِّطُها على مَن يشاءُ؛ فإنها -أيضًا- خَلْقٌ مِن خلْقِ اللهِ
يُسخِّرُها لِمَنْ يشاءُ من عبادِه. قال المولَى تبارك وتعالى:
{وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ
الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ}
[الأنبياء:81]، وقال تعالى: {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ
وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ} [سـبأ: من الآية12]. قال قتادةُ: (تغدو مسيرةَ شهرٍ
إلى نِصفِ النهارِ، وتَروحُ مسيرةَ شهرٍ إلى آخرِ النهارِ؛ فهي تسيرُ في
اليومِ الواحدِ مَسيرةَ شهرينِ) [زاد المسير - ابن الجوزي ج6/ص438)].
إنَّ
كثيرًا من الدولِ والأممِ والمجتمعاتِ غالبًا ما تضربُ لهذه الرياحِ
والأعاصيرِ ألفَ حسابٍ؛ فتقرأُ الأحوالَ الجويَّةَ وتَتنبَّأُ بوقتِ
ومكانِ حدوثِها، وتتَّخِذُ مِن أجلِها الاحتياطاتِ وتشغيلِ الإنذاراتِ
وتجهيزِ الملاجئِ! ومع هذا كلِّه إلا أنها لا تتجاوزُهم إلا بخسائرَ
فادحةٍ في الأرواحِ والأموالِ، وتلفيَّاتٍ في الممتلكاتِ!
أيها المسلمون! إنَّ مما ينبغي الحذرُ منه: هو نسبةُ هذه الظواهرِ إلى الطبيعةِ! كما يُسميها بعضُهم:
(غضبَ الطبيعةِ)!! وكما يقول بعضُهم: إنَّ هذه ظواهرُ طبيعيَّةٌ، لها أسبابٌ معروفة، لا علاقةَ لها بأفعالِ الناسِ
ومعاصيهم!!
كما يَجرى ذلك على ألسنةِ بعضِ الصحفيِّينَ والإعلامِيِّين، حتى صار
الناسُ لا يَخافون عند حدوثِها، ولا يَعتبِرون بها. قال العلامة ابنُ
عثيمينَ -رحمه الله- : (ونحن لا ننكرُ أنْ يكونَ لها أسبابٌ حِسِّيَّةٌ،
ولكنْ: مَنِ الذي أوجدَ هذه الأسبابَ الحسيَّةَ؟؟ إنَّ الأسبابَ الحسيةَ
لا تكونُ إلا بأمرِ اللهِ عز وجل، واللهُ بِحكمتِه جعل لكلِّ شيءٍ سببًا؛
إما سببًا شرعيًّا، وإمَّا سببًا حسيًّا. هكذا جرَتْ سُنَّةُ اللهِ عز
وجل) [خطبة هذا نذير-موقع الشيخ].
نسألُ اللهَ عزّ وجل أنْ يجعلني
وإيَّاكم مِنَ الذين إذا وُعِظُوا اتَّعَظُوا، وإذا أذنَبوا استغفروا،
وإذا ابتُلوا صَبروا، إنه سميعٌ مُجيبٌ.
أعوذ بالله من الشيطان
الرجيم: {فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا
عَلَيْهِ حَاصِبًا (الريح تحمل الحصى الصغار) وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ
الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ
أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا
أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [العنكبوت: 40].
أقول ما تسمعون ...
أيها
المسلمون! إنَّ مِن الناس مَن يتذمَّر عندما يَرى الرِّيحَ والغُبارَ،
وربما تَطاول؛ فَسَبَّها وشَتَمها!! وهذ أمرٌ قد نَهى عنه رسولُ اللهِ
-صلى الله عليه وسلم- حيث قال: " لا تَسُبُّوا الريحَ، فإذا رأيتم ما
تَكرهُونَ؛ فقولوا: اللهمَّ! إنا نسألكَ مَن خَيرِ هذا الريحِ وخيرِ ما
فيها وخيرِ ما أُمرَتْ به، ونعوذُ بكَ مِن شرِّ هذا الريحِ وشَرِّ ما فيها
وشرِّ ما أُمرتْ به" [الترمذي 7315]، وقال: " لا تَسُبُّوا الريحَ؛
فإنَّها مِن رَوحِ اللهِ تعالى، تأتِي بالرَّحمةِ والعذابِ، ولكن؛ سَلُوا
اللهَ مِن خيرِها، وتعوَّذُوا باللهِ مِن شَرِّها " [رواه أحمد وصححه
الألباني7316].
ومما ينبغي التبيهُ عليه: هو قولُ بعضِ الناسِ:
(اللهم! اجعلْها رحمةً ولا تجعلْها عذابًا، اللهم! اجعلْها رياحًا ولا
تَجعلها ريحًا)، فهذا حديثٌ ضعيفٌ جدًّا [ضعيف الجامع للألباني 4461]،
وإنما الثابتُ مِن سُنَّةِ رسولِ اللهِ -عليه الصلاة والسلام- هو ماذكرناه
آنفًا.
فلْنَتَّقِ اللهَ -أيها المسلمون- ولْنأخذْ بأسبابِ
النجاةِ؛ فإنَّ هلاكَ الإنسانِ ونَجاتَه مُقَيَّدٌ بما كسبتْ يداه،
ولْنَعتبرْ بِمَن حولنا، ولْنَتَّعِظْ بما يَجري بالأقوامِ مِن غيرِنا،
كان عبدُ اللهِ بنُ مسعودٍ يُحدِّثُ في المسجدِ: (إنَّ الشقيَّ مَنْ
شَقِيَ في بطنِ أمِّه، والسعيدُ مَن وُعِظَ بغيرِه). [ظلال الجنة. صحيح].
نسألُ اللهَ أنْ يهديَ ضالَّ المسلمين، وأنْ يرزقَنا جميعًا الفقهَ في الدِّينِ، وأنْ يَجعلني وإياكم مِن عبادِه الصالِحين.
منقول