الثقافة الشعبية الفلسطينية///د. عز الدين المناصرة

الثقافة الشعبية الفلسطينية///د. عز الدين المناصرة

الثقافة الشعبية الفلسطينية

د. عز الدين المناصرة

(الثقافة الشعبية) هي
أحد مستويات الثقافة العامة الوطنية والقومية لشعب ما. وهذا المستوى يتعلق
بالتكوين الروحي والعاطفي، عبر تحولات التاريخ الشعبي الذي يكتبه فرد معلوم
أو مجهول ليصبح جزءاً أساسياً في الوعي الجمعي. وهو متحرك زمنياً عبر
الماضي والحاضر والمستقبل، وهذه الحركة تمنحه تأثيراً عاطفياً جماهيرياً،
بعيداً عن مفاهيم: (الطبقة) و (الفلكرة) و (السكون) و (العالمة).المسألة
تتعلق بدرجة الوعي الفطري الجمعي في عصر ما، فثقافة الطبقة هي نتاج وعيها
الجمعي، لهذا تنتج شعبيتها الخاصة حتى لو كانت الطبقة العليا، فالصراع أو
التوافق الطبقي لا يلغيان تعددية مستوى شعبية الثقافة، لأن المستوى يعني
الدرجة والدرجة لا تلغي المستوى، فالمستوى سواء أكان يتعلق بالطبقات العليا
أو الطبقات الوسطى أو الطبقات التحتانية يؤكد حق الطبقة في الشعبية، لكن
نوعية المستويات هي التي تختلف.أما (الفلكرة) فهي الاتجاه الفولكلوري الذي
يقتطع الموروث من محجره وسياقه الاجتماعي والثقافي والتاريخي، ليعرضه من
أجل استعراض عاطفي غرائزي يستقوي به ثقافياً لتأكيد عناصر يفتقدها العرض
نفسه لأسباب سياسية أو سياحية أو تجارية.أما ربط الثقافة الشعبية بفكرة
مضادة كالقول: هي الثقافة المضادة للثقافة العالمة الحية، فهي فكرة خاطئة
من أساسها، لأن هذه الفكرة تتحرك في الإطار الأيديولوجي لصراع الطبقات.
ونحن نقيس هذا الخطأ على خطأ مشابه في مجال مقارنة أهمية اللغات في العالم
حين تقسم إلى لغات حية ولغات غير حية، كما يقال عادة بأن الإنجليزية
والفرنسية هي لغات حية لأنها مسيطرة بقوة من خارج طبيعة اللغة، بينما
الحقيقة تقول إن جميع اللغات متساوية ألسنياً، لكن درجة التأثير والاستعمال
هي التي تختلف وبالتالي: فاللغة الصينية هي الأولى في التأثير كما هو
معروف.وقد نتج عن هذا الخطأ، أي الإيحاء بتعالي الثقافة العالمة الحية
ودونية الثقافة الشعبية كما فعل علماء الأنثروبولوجيا نتج نوع من التحديد
والاعتقال للثقافة الشعبية بوضعها في إطار فولكلوري كالقول إنها الفولكلور
الذي يتكون من النثر والشعر الشعبي والفنون الشعبية والعادات والتقاليد
والعقائد الشعبية!! وقد منع هذا التحديد قراءة الثقافة الشعبية في إطار
الحركية التاريخية المستمرة. وبما أن (مرحلة الجمع) هي مرحلة مهمة تكتفي
بالتحليل البسيط والتفسير والتعليق، فمن قراءة الثقافة الشعبية ظلت تتمحور
عند التأليف البسيط، بانتظار اكتمال مرحلة أو مراحل الجمع لتنطلق القراءة
إلى درجة التأويل.ورغم الفارق بين مصطلحي التراث (HERITAGE) و
(PATRIMOINE)، إلا أن المرجعية الأوروبية لا تصلح لقراءة الموروث العربي،
باستثناء الاستفادة من بعض المنهجيات الأوروبية، فالمفاهيم تختلف، لهذا فإن
تطبيق المرجعيات الأوروبية لمفاهيم الثقافة الشعبية يقتضي توطين المناسب
من هذه المرجعيات بعيداً عن القداسة الحرفية. فنحن مثلاً نستطيع الاستفادة
من منهجيات (كلود ليفي ستروس) أو (فلاديمير بروب) في مجال تحليل العقائد
الشعبية بنيوياً لدى ستروس أو تحليل وظائف الحكايات الشعبية لدى بروب، ولكن
يجب أن نتذكر دائماً ونحن نمارس عملية الاستفادة أن المرجعية مختلفة وأن
التوحيد القسري لمنهجيات التحليل لايقود إلا إلى أشكال نمطية جامدة كما فعل
البنيويون في تحليل الشعر.لا تنفصل الثقافة الشعبية الفلسطينية عن الثقافة
الشعبية الكنعانية (بلاد الشام) بل ترتبط ارتباطاً خاصاً بها، بصفتها شجرة
مشتركة، لكن أهمية فلسطين في شجرة العائلة المشتركة تكمن في كونها المركز
لأسباب تاريخية وجغرافية وقد تم إضعاف هذا المركز في القرن العشرين
بالتحديد، منذ مأساة 1948م، حيث تم تدمير التطور الطبيعي للمجتمع
الفلسطيني، مما ساهم في خلق ثقافة شعبية هجينة، خصوصاً لدى الفلسطيني في
المنفى. وبطبيعة الحال لا تنفصل الثقافة الشعبية الفلسطينية عن محيطها
العربي، بل العكس، فقد كانت هذه الثقافة مفتوحة ومؤثرة عربياً وعالمياً،
وخصوصاً أنها تنطلق من حضارة أممية قديمة هي الحضارة الكنعانية. وقد كانت
القدس هي مركز ثقافات العالم حتى عام 1948م.ومنذ صراع الهوية الفلسطينية من
أجل تأكيد عراقتها وحقها في البقاء، بدأ البحث الفولكلوري الفلسطيني يشق
طريقه ملازماً للنضال من أجل الدفاع عن الهوية، خصوصاً في ظل بروز منظمة
التحرير الفلسطينية منذ عام 1964م. لكن الدراسات الرائدة الأولى (توفيق
كنعان وعمر الصالح البرغوثي وغيرهما) كتبت بروح مطمئنة على الهوية، حيث لم
تكن إشكالية الهوية مطروحة آنذاك، أي قبل عام 1948م. بينما عانى الباحثون
الفلسطينيون بعد 1948م في مجال الفولكلور معاناة أليمة مع أزمة الهوية، بل
دفع بعضهم ثمناً غالياً من أجل إبراز عناصر الهوية من خلال الثقافة
الشعبية. هنا نتذكر (مرحلة المسكوت عنه) كما في أبحاث نمر سرحان وعبد
اللطيف البرغوثي ويسرى جوهرية وعمر الساريسي وتوفيق زياد وحسن الباش وعلي
الخليلي ونمر حجاب ووداد قعوار ومركز البيرة بإشراف سميحة خليل ومركز
الطيبة وغيرهم كثير.لقد ساهمت هذه الأبحاث في تعميم القلق على الموروث، وفي
محاولة كشف المسكوت عنه في النص الشعبي وبعد مرحلة (الطمأنينة) في النصف
الأول من القرن العشرين التي ساهم فيها مستشرقون أوروبيون، وبعد مرحلة (كشف
المسكوت عنه) التي ساهم فيها عرب منهم: الباحث المصري شوقي عبد الحكيم على
سبيل المثال، ولدت مرحلة ثالثة جديدة (مرحلة علم الثقافة الشعبية) وهي
مرحلة قراءة الثقافة الشعبية الفلسطينية بأساليب ومنهجيات أوروبية غير
تقليدية (شريف كنعانة ونبيل علقم مثلاً).يبدو لي أن الباحث محمد توفيق
السهلي ينتمي إلى المرحلة الثانية أي (مرحلة كشف المسكوت عنه) وهي مرحلة
مستمرة وستظل ما دام الموروث الشعبي لم يجمع ولم يفسر جمعاً شبه كامل حتى
الآن. والسبب يعود إلى غياب المؤسسات وقلة الاكتراث أحياناً أو بسبب الظروف
الصعبة الفلسطينية. لهذا جاءت الجهود الفردية العصامية التي تنطلق من
الحافز الوطني لتسد بعض الثغرات ومنها مشروع نمر سرحان الرائد فعلاً في هذا
المجال. كما يندرج الباحث السهلي في نفس منطقة العصامية الوطنية الفردية.
حيث يبذل كل هذا الجهد الرائع في الجمع والتفسير، متخذاً مجال بحثه في حقل
واحد لكنه ضروري وهو حقل (المصطلحات والتعابير الشعبية)، حيث يعيد المصطلح
إلى مرجعيته الثقافية الشعبية، وهنا تتحول المفردة أو التعبير إلى حقل
معرفي ثقافي واسع اتساع الثقافة الشعبية نفسها، حيث اللغة بلهجتها والمعرفة
الجغرافية والمعرفة الأدبية والمعرفة الأناسية والتاريخية إلخ.وهكذا تضاف
هذه الموسوعة النوعية إلى محاولات الرواد من الباحثين، لتكون بين يدي قارئ
متعدد الاهتمامات الثقافية، وهي سلسلة في تبويبها، ممتعة في مفاجآتها، فله
نرفع التحية اعترافاً بهذا الجهد.