الحمد
لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبيه محمد وعلى آله وصحبه أجمعين أما
بعد: حديثنا اليوم عن رجل قيَّضه الله لأمة الإسلام في زمن قلَّ فيه
العلماء وندر فيه الفقهاء، فكان إماماً قدوةً وعالماً متبحراً وبدراً
منيراً اجتمعت فيه كثير من صفات العلماء الربانيين والأئمة المتقين، بلَّغ
هذا الدين أحسن البلاغ ووضحه أتمَّ الإيضاح بحكمةٍ وعلمٍ وموعظةٍ حسنةٍ
واتباعٍ للسُّنةِ الغرَّاء وسيرٍ على نهج الأنبياء، اهتدى به أممٌ من
الناس لا يُحصون في مشارق الأرض ومغاربها فرفعوا راية التوحيد والسنة
وقضوا على لواء البدعة والفتنة، إنه العلامة المحدث الفقيه شيخ الإسلام
مفتي الأنام وحسنة الأيام وغرة هذا الزمان، وحصن الفضيلة وسيف الإسلام
الذاب عن عقيدة التوحيد والمكافح ضد البدع والمنكرات، الشيخ الإمام: عبد
العزيز بن عبد الله بن عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله آل باز، وُلد في
مدينة الرياض في اليوم الثاني عشر من شهر ذي الحجة عام ثلاثين بعد
الثلاثمائة والألف من هجرة المصطفى - صلى الله عليه وآله وسلم -، وترعرع
فيها وشبَّ وكبر ولم يخرج منها إلا حاجاً أو معتمراً، نشأ في أسرة معروفة
بالعلم والفضل والزهد والورع، وقد كان لوالدته أثر بالغ في توجيهه نحو
العلم الشرعي وطلبه والمثابرة عليه، فكانت تحثه وتشد من أزره، لوحظ عليه
نبوغه المبكر، وألمعيته النادرة، ونجابته الظاهرة، وذكاءه المفرط منذ
نعومة أظفاره، ففاق أقرانه وبزَّ أترابه، حفظ كتاب الله قبل البلوغ، وكان
بصيراً، ولكنه أصيب بمرض وهو في سن السادسة عشرة من عمره، فضعف بصره، وأخذ
في الضعف شيئاً فشيئاً حتى فقده تماماً في سن العشرين، ولكن الله عوَّضه
بصيرةً في قلبه ونوراً وإيماناً، تتلمذ على كبار علماء وقته وزمانه،
فاكتسب علماً غزيراً امتلأت به نفسه، وأشرق به فؤاده، وارتوى منه حتى خرج
الريُّ من أظفاره، ثم فاضت بركة هذا النهر المتدفق على أمة الإسلام في كل
مكان، فأصبح عالم الدنيا في عصره، يا من رأى مثله أو من يضارعه فليأت بين
الملا يزري بأقوالي، يا رائد العلم في هذا الزمان، ويا مجدد العصر في علم
وأعمال، حقاً فقد عرف التاريخ كوكبة مضيئة من صناديد وأبطال مثل: ابن
حنبل، أو ابن تيمية، أو البخاري في إسناده العالي، لكننا يا حبيب القلب
نبصرهم كأنما مثلوا في شخصك الغالي، كان صاحب بصيرة نافذة وفراسة حادة:
يعرف الرجال وينزلهم منازلهم، ويكرم طلبة العلم ويقدمهم على غيرهم، وله
فراسة في معرفة أحوال رؤساء القبائل والتفريق بين صالحهم وطالحهم، وله
فراسة معروفة في المسائل العويصة، والمشكلات العلمية، فتجده فيها متأملاً
متمعِّناً لها، تُقرأ عليه عدة مرات حتى يفك عقدتها ويحل مُشْكِلَها، اتبع
- رحمه الله - منهجاً متميزاً وفريداً في الدعوة إلى الله يدل على سعة
علمه، وبالغ حكمته، وقوة بصيرته حيث سار على نهج السلف الصالح في فهم
الدين والعمل به، جامعاً بين العلم والعمل والاعتدال والرفق والبصر النافذ
بواقعه المحيط به مع فقه وعلم بما يستحق التقديم وما حظه التأخير، وما هو
أولى بالعمل دون غيره، وهو ما يعرف بفقه الأولويات وفقه الأولويات هو:
العلم بالأحكام الشرعية التي لها حق التقديم على غيرها بناء على العلم
بمراتبها وبالواقع الذي يتطلبها، وهذا التعريف يعني: الفقه بأحكام الشرع
وبمراتبها، وبالأهم من المهم وبالقطعي من الظني وبالأصل من الجزئي
وبالكبير من الصغير ويعني: الفقه بالضوابط التي يتم بناء عليها ترجيح حكم
على آخر في حالة التزاحم أو في غير حالة التزاحم، وقد كان سماحته إماماً
في هذا الباب كما سيأتي بيانه إنشاء الله، فالفقه بهذه الأمور يخول معرفة
الحكم الأولى بالتقديم على غيره ووضع كل شيء في مرتبته، بناءً على معايير
شرعية صحيحة، صح عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما -، فيما رواه عنه
ابن أبي نعيم، قال: جاء رجل إلى ابن عمر وأنا جالس، فسأله عن دم البعوض!
وفي رواية: "فسأله عن المحرم يقتل الذباب"! فقال له: ممن أنت؟ قال: من أهل
العراق، قال: ها، انظروا إلى هذا! يسأل عن دم البعوض، وقد قتلوا ابن رسول
الله - صلى الله عليه وسلم -!! وقد سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
يقول: (( هما يعني الحسن والحسين ريحانتي من الدنيا)) وفي الرواية
الأخرى: "أهل العراق يسألون عن الذباب، وقد قتلوا ابن بنت رسول الله" قال
الحافظ ابن حجر في شرح الحديث في فتح الباري: قال ابن بطال: "يؤخذ من
الحديث أنه يجب تقديم ما هو أوكد على المرء من أمر دينه؛ لإنكار ابن عمر
على من يسأله عن دم البعوض، مع تركه الاستغفار من الكبيرة التي ارتكبها
بالإعانة على قتل الحسين، فوبخه بذلك، وإنما خصه بالذكر؛ لعظم قدر الحسين،
ومكانه من النبي - صلى الله عليه وسلم - ". أ. ه.
وعلى
هذا، فلا يجوز تقديم غير المهم على المهم، ولا المهم على الأهم، ولا
المرجوح الراجح، ولا المفضول على الفاضل، أو الأفضل، بل يقدم ما حقه
التقديم، ويُؤخِّر ما حقه التأخير، ولا يُكبِّر الصغير، ولا يُهوِّن
الخطير، بل يوضع كل شيء في موضعه بالقسطاس المستقيم، بلا طغيان ولا إخسار،
وهذا بيِّن جلي في قوله - تعالى -: ( أجعلتم سقاية الحاجِّ وعمارة المسجد
الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله لا يستوون عند الله
والله لا يهدي القوم الظالمين)، وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((
الإيمان بِضْع وسبعون شُعْبة أعلاها لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى
عن الطريق))، وكان الصحابة - رضي الله عنهم - حريصون على أن يعلموا ما هو
الأَوْلى من الأعمال ليهتموا به وليتقرَّبوا إلى الله - تعالى -به، ولهذا
كثرت أسئلتهم عن أفضل العمل، وعن أحب الأعمال إلى الله - تعالى-، وبسبب
ذلك كثر في الأحاديث: أفضل الأعمال كذا، أو أحب الأعمال إلى الله كذا
وكذا، ففي الصحيحين عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: قلت يا رسول الله:
((أي العمل أفضل قال: الصلاة على وقتها، قلت: ثم أي؟ قال: بر الوالدين،
قلت: ثم أي؟. قال: الجهاد في سبيل الله)) وعن عبد الله بن عمرو - رضي الله
عنه - أن رجلاً سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: (( يا رسول
الله أي الإسلام خير؟ قال: تطعم الطعام وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم
تعرف)) أخرجه البخاري، وعن عبد الله بن بسر المازني - رضي الله عنه - قال:
جاء أعرابيان إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال أحدهما: ((يا
رسول الله: أي الناس خير؟ قال: طوبى لمن طال عمره، وحسن عمله، وقال الآخر:
أي العمل خير؟ قال: خير العمل أن تفارق الدنيا ولسانك رطب من ذكر الله))
أخرجه أبو نعيم في الحلية، والبغوي في شرح السنة وصححه الألباني في
السلسلة الصحيحة 4 / 451، وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله -
صلى الله عليه وسلم - سئل: (( أي العمل أفضل؟ قال: أفضل العمل أن تدخل على
أخيك المؤمن سروراً، أو تقضي عنه ديناً، أو تطعمه خبزاً)) رواه الأصبهاني
في الترغيب وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة 6 / 485.
أسباب طرح الموضوع:
أ-
بيان سيرة هذا الإمام الفذ في تعامله مع الواقع، ودقة فقهه في تقديم
الأولى فالأولى، وهذا يفيد طالب العلم بما ينبغي القيام به أولاً من حيث
تزاحم المفاسد وتكاثر المخاطر؛ لكي يستطيع مواجهة أعلى الأخطار ولو تحقق
أدناها، ويدفع أعظم الأضرار ولو نزل أقلها، ويحقق أكبر المصالح ولو فات ما
هو دونها خصوصاً في هذا الزمان الذي يموج بألوان الفتن والبلايا والمحن،
وهذا هو منهج القرآن الكريم وطريقة السنة النبوية، فالقرآن لم ينزل دفعة
واحدة وإنما سلك منهج التدرج في علاج الظواهر المريضة التي كانت متجذرة في
المجتمع الجاهلي، فكانت الأحكام تنزل بما يناسب الظرف وبما يحتاج إليه كل
مرحلة طيلة ثلاث وعشرين سنة، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يراعي ما
هو أولى بالتقديم من غيره، فيقدم ما يستحق التقديم ويؤجل ما ليس مناسب،
كما كان يتعامل مع كل واقعة بما يتناسب وحجمها الحقيقي وبما تستحق من
عناية واهتمام، وإن المتتبع للسيرة يلحظ أن الأهداف الإستراتيجية للدعوة
اختلفت اختلافاً بيناً بين العهد المكي والعهد المدني.
ب-
ومن أسباب طرح الموضوع: الخلل الذي أصاب الأمة في معايير أولوياتها، حتى
أصبحت تُصغِّر الكبير، وتُكبِّر الصغير، وتُعظِّم الهين، وتُهوِّن الخطير،
وتُؤخِّر الأول، وتُقدِّم الأخير، وتهمل الفرض وتحرص على النفل، وتكترث
للصغائر، وتستهين بالكبائر، وتعترك من أجل المختلَف فيه، وتصمت عن تضييع
المتفَق عليه.
ج-
ومن الأسباب: تشتت الجهود الفكرية على جبهات المواجهة، فعندما أيقن أعداء
الإسلام من عجزهم عن الانتصار في المعارك المسلحة ابتكروا استراتيجية
جديدة تحت ما يعرف بالسياسة المسلحة، فأكثروا من الدس والكيد، وقذفوا
بمئات الاتهامات والأباطيل تنال من الإسلام ومن رسوله - صلى الله عليه
وسلم -، فنهض علماء الأمة ومفكروها؛ للدفاع وإبطال هذه التهم، ونشأ ما
يسمى بالفكر الدفاعي حيث استهلكت فيه طاقات عقلية وفكرية هائلة، وصُرِف
الاهتمام عن مشاغل الأمة الحقيقية، فتأخرت في بنائها الداخلي، وعليه فإن
فقه الأولويات يحدد ما يجب فعله في مرحلة الدفاع وما ينبغي القيام به في
مرحلة البناء والتأسيس.
د-
ومن الأسباب: أن مسألة الأولويات قد استعملت من قبل أعداء الأمة كمدخل
لتدميرها، فالنظام العالمي المعاصر، والمنظمات الدولية المنبثقة عنه،
والدائرة في فلكه قد استخدمت مدخل (الأولويات) فحقق لها من الإنجازات ما
عجزت عن تحقيق مثله الجيوش والأسلحة الفتاكة، فكم من شعب أُقنِع بأن
أولويَّته التصنيع، فترك الزراعة وأهمل الأرض، واتَّجه نحو التصنيع أو
التجميع فإذا به بعد فترة من الزمن يجد نفسه عالة على الآخرين يتكففهم
لقمة العيش بعد أن ضيع الزراعة، ولم يستطع المنافسة في الصناعة، وكم من
دولة أُقنعت بأن أولويَّتها أن تزرع محصولاً معيّناً، فاتجهت وراء وسوسة
من سوَّل لها ذلك فوجدت نفسها بعد فترة على حافة هلكة من المجاعة والفقر،
فيجب على الأمة الوعي بأولوياتها؛ لئلا يزين لها أعداؤها من الأمور ما فيه
هلاكها من حيث لا تدري، تلكم هي بعض الأسباب التي أرى أنها توجب العناية
بأولويات الواقع المعاصر، وترتيب الأوراق، وتوزيع الأدوار، وتبادل المهام،
وقبل أن نلقي الضوء على الجانب المتعلق بفقه الأولويات من سيرة هذا
الإمام، نذكر معياراً لا يخطئ في معرفة ما حقه التقديم وما حقه التأخير
وهو: الاهتمام بما اهتم به القرآن الكريم، فأدق المعايير وأضبطها التي
ينبغي الرجوع إليها في بيان ما هو أحق وأولى بالرعاية والتقديم على غيره:
أن نعنى بالأمر على قدر ما عني به القرآن الكريم، فما اهتم به القرآن،
وكرره في سوره وآياته، وأكده في أمره ونهيه ووعده ووعيده، يجب أن تكون له
الأولوية، والتقديم والعناية في اهتماماتنا، وفي تقويمنا وتقديرنا، ففي
المرحلة المكية اهتم القرآن طيلة ثلاثة عشر عاماً بتربية الصحابة - رضي
الله عنهم -، وغَرْس التوحيد في نفوسهم، وتنشئتهم تنشئة إيمانية أخلاقية
متكاملة، وترسيخ أصول العقيدة، وأصول الفضائل، ومكارم الأخلاق، وتأصيل
منهج النظر السليم، والتفكير الرشيد، وظلت آيات القرآن تتنزل على هذا
النحو، تغرس العقائد والمفاهيم، وتزرع القيم والفضائل، وتطهر العقول
والقلوب من رجس الجاهلية، وتربيها على معاني الإيمان وما يتطلبه من صبر
ومصابرة، وثبات، وبذل في نصرة الحق، ومجاهدة الباطل، وتنقية العقول من
التقليد الأعمى للأجداد والآباء، أو للسادة والكبراء، قبل أن تنزل الآيات
التي تأمر بالجهاد، بل كانت آيات القرآن تأمر بكف اليد والصبر على الأذى،
فقد كان الصحابة - رضي الله عنهم - يجيئون إلى النبي - صلى الله عليه وسلم
- ما بين مضروب ومشجوج ومجروح، يشكون إليه ما أصابهم، مطالبين بحمل السلاح
دفاعا عن أنفسهم، وحرباً لعدوهم وعدو دينهم، ولكن النبي - صلى الله عليه
وسلم - كان يتلو عليهم قوله - تعالى-: ( كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة) ليس
معنى هذا التهوين من شأن الجهاد، فهو ذروة سنام الإسلام، ولكن حديثنا عن
الأولويات، والأولوية في العهد المكي كانت لغرس التوحيد وصناعة الرجال،
أما في العهد المدني بعد أن أقيمت دولة الإسلام وتكاثر الأعداء عليها
وتمالئوا ضدها، برزت الحاجة إلى الإذن بالجهاد، وبيان أحكامه وضوابطه
وأهدافه، وبيان أسباب الهزيمة والنصر، والصبر والمصابرة والمرابطة، والحذر
من كيد الأعداء، كما نزلت آيات في أصول التعامل مع الكفار سواء كانوا
ذميين أو مستأمنين أو حربيين، كما بدت الحاجة ماسة إلى بيان تفاصيل
العبادات والشعائر من إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والصيام، والحج، والبيع
والشراء، والرهن، والوديعة، والعارية، وغيرها من المعاملات، أما اهتم به
القرآن اهتماماً قليلاً، فيُعطى مثل ذلك القدر من الاهتمام دون مبالغة أو
مزيد عناية كقصة الإسراء بالنبي - صلى الله عليه وسلم - التي ذكرها القرآن
في آية واحدة فقط، خلافاً لبعض الغزوات التي ربما استغرقت سوراً كاملةً أو
أجزاء كبيرة منها، وقصة "مولد النبي" - صلى الله عليه وسلم - لم يذكرها
القرآن، ولم يشر إليها ولو إشارة، فدل على أنها أمر غير ذي بال؛ إذ لم
ترتبط بها معجزة كما ارتبط بميلاد المسيح، كما لم يرتبط بها عمل أو عبادة
لا على وجه الإيجاب ولا على وجه الاستحباب، فهذا معيار لا يخطئ؛ لأن
القرآن هو عمدة الملة وأصل الدين وينبوع الإسلام، والسنة جاءت شارحة
ومبينة، قال - تعالى-: ( إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم)، وقال -
تعالى-: ( قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين، يهدي به الله من اتبع رضوانه
سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم)،
وقال - تعالى-: ( ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء وهدىً ورحمةً وبشرى
للمسلمين) أول ما تميز به منهج سماحته: فقهه لواقع الأمة والظروف التي
تحيط بها وذلك أن: منهج الإسلام مبنيٌّ على فهم الواقع، ومراعاة حال
المجتمعات والأفراد، وما كان لدعوة الإسلام التي جاءت لمراعاة العباد
وتحقيق مصالحهم في كل زمانٍ ومكان أن يكتب الاستمرار والخلود والشمولية
إذا لم تكن من المرونة والسعة اللتين تجعلانها تناسب كل حالٍ وظرف، ولذا
لم يكن - رحمه الله - بمعزل عما يدور وما يجري على الساحة، بل كان عالم
أمة، يتابع دقائق الأحداث والمجريات التي تستجد وتطرأ ويبين حكم الله
فيها، ولا أدلَّ على ذلك من تأليفه لكتاب: " نقد القومية العربية على ضوء
الإسلام والواقع " حيث ألَّفه في الزمن الذي حصلت فيه فتنة القومية
العربية وكثر الناعقون لها، وكثر الكلام عنها في الصحف والإذاعات، فما كان
منه - رحمه الله - أن ألَّف كتاباً عظيماً نافعاً في ذلك، وفي هذا رد على
الذين يلمزون العلماء ويتهمونهم أنهم لا يفقهون الواقع، وأنهم أهل الأوراق
الصفراء، وعلماء حيض ونفاس، فمن اطَّلع على هذا الكتاب وجد ما فيه من
الفقه والفهم للواقع على ضوء الكتاب والسنة، ومن هذا الباب أيضاً ردوده
على بعض المقالات الصحفية والكتابات التي تنشر هنا وهناك التي تتضمن خطاً
ظاهراً يناقض أصول الدين أو فروعه، حيث كان ينشر التحذير والتنبيه على
الخطأ في نفس الصحيفة التي ورد فيها المقال، أو في صحيفة أخرى، أو في مجلة
البحوث الإسلامية، وأمثلة هذه الردود كثيرة جداً حتى بلغت العشرات، مما
يدل على فهم الشيخ لواقعه، ومتابعته لما يدور ويكتب وينشر حوله مما يخالف
شرع الله - تعالى -، ويحسن في هذا المقام بيان أن كثيراً من السلف قد
عدُّوا الرد على أهل البدع من أنواع الجهاد، قَالَ الْقَاضِي أَبُو
الْحُسَيْنِ فِي الطَّبَقَاتِ فِي تَرْجَمَةِ أَبِيهِ: "وَقَالَ
الْمَرُّوذِيُّ: قُلْت لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ يَعْنِي إمَامَنَا أَحْمَدَ
- رضي الله عنه - تَرَى لِلرَّجُلِ أَنْ يَشْتَغِلَ بِالصَّوْمِ
وَالصَّلَاةِ وَيَسْكُتَ عَنْ الْكَلَامِ فِي أَهْلِ الْبِدَعِ؟ فَكَلَحَ
فِي وَجْهِهِ، وَقَالَ: إذَا هُوَ صَامَ وَصَلَّى وَاعْتَزَلَ النَّاسَ
أَلَيْسَ إنَّمَا هُوَ لِنَفْسِهِ؟ قُلْت: بَلَى قَالَ: فَإِذَا تَكَلَّمَ
كَانَ لَهُ وَلِغَيْرِهِ يَتَكَلَّمُ أَفْضَلُ".
وما زال السلف يردون على المبتدعة، وينكرون عليهم بدعهم، ويمنعونهم من مزاولتها، وهذه نماذج من ذلك:
أ-
عن عمر بن يحيى قال: سمعت أبي يحدث عن أبيه فقال: كنا نجلس على باب عبد
الله بن مسعود - رضي الله عنه - قبل صلاة الغداة، فإذا خرج مشينا معه إلى
المسجد، فجاءنا أبو موسى الأشعري - رضي الله عنه -، فقال: أخرج عليكم أبو
عبد الرحمن بعد؟ قلنا: لا، فجلس معنا حتى خرج، فلما خرج قمنا إليه جميعاً،
فقال: يا أبا عبد الرحمن إني رأيت في المسجد آنفاً أمراً أنكرته، ولم أر
والحمد لله إلا خيراً، قال: ما هو، قال: إن عشت فستراه، قال: رأيت في
المسجد قوماً حلقاً جلوساً ينتظرون الصلاة، وفي كل حلقة رجل وفي أيديهم
حصى فيقول: كبروا مائة، فيكبرون مائة، فيقول هللوا مائة فيهللون مائة
فيقول: سبحوا مائة، فيسبحون مائة، قال فماذا قلت لهم، فقال: ما قلت لهم
شيئاً انتظار رأيك، أو انتظار أمرك، قال: أفلا أمرتهم أن يعدوا سيئاتهم،
وضمنت لهم أن لا يضيع من حسناتهم شيء، ثم مضى ومضينا معه حتى أتى حلقة من
تلك الحلق، فوقف عليهم فقال: ما هذا الذي أراكم تصنعون؟ قالوا يا أبا عبد
الرحمن حصى نعد به التكبير والتهليل والتسبيح والتحميد، قال: فعدوا
سيئاتكم، فأنا ضامن من أن لا يضيع من حسناتكم شيء، ويحكم يا أمة محمد ما
أسرع هلكتكم، هؤلاء أصحابه متوافرون، وهذه ثيابه لم تبل، وآنيته لم تكسر،
والذي نفسي بيده إنكم لعلى ملة هي أهدى من ملة محمد - صلى الله عليه وسلم
-، أو مفتتحوا باب الضلالة، قالوا: والله يا أبا عبد الرحمن ما أردنا إلا
الخير، قال: وكم مريد للخير لن يصيبه، إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم
- حدثنا أن قوماً يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم، وأيم الله لا أدري لعل
أكثرهم منكم، ثم تولى عنهم فقال عمرو بن سلمة: رأينا عامة أولئك الحلق
يطاعنوننا يوم النهروان مع الخوارج.
ب-
جاء رجل إلى الإمام مالك بن أنس - رحمه الله - فقال: من أين أحرم، فقال من
الميقات الذي وقّت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأحرم منه، فقال
الرجل فإن أحرمت من أبعد منه، فقال مالك: لا أرى ذلك، فقال ما تكره من
ذلك، قال أكره عليك الفتنة، قال: وأي فتنة في ازدياد الخير، فقال مالك:
فإن الله - تعالى-يقول: ( فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو
يصيبهم عذاب أليم)، وأي فتنة أعظم من أنك خصصت بفضل لم يختص به رسول الله
- صلى الله عليه وسلم - .
ج-
عن سعيد بن المسيب - رحمه الله - أنه رأى رجلاً يصلي بعد طلوع الفجر أكثر
من ركعتين، يكثر فيها الركوع والسجود، فنهاه، فقال يا أبا محمد، يعذبني
الله على الصلاة، قال لا ولكن يعذبك على خلاف السنة.
إن
التصدي للرد على أهل البدع، وعلى العلمانيين، وعلى افتراءات الغرب ضد
الإسلام والمسلمين من الأعمال التي تنم عن معايشة الواقع، ويرجى أن يكون
نفعها متعدياً حيث لا تقل شأناً عن الجهاد في سبيل الله، فالدفاع عن
الإسلام حتى لا تُشوَّه صورته، ولا تُجتزأ حقائقه، ولا تُغيَّب مقاصده،
ولا تعطل أحكامه، ولا يزيَّف تاريخه من أولى الأولويات، بل صنفه علماء
الأمة في مقدمة الكليات أو الضرورات الخمسة التي يجب حفظها ورعايتها قبل
غيرها، وهي حفظ الدين، وحفظ النفس، وحفظ العقل، وحفظ المال، وحفظ النسل؛
لأن في حفظ الدين أو الإسلام حفظ ورعاية لها جميعاًُ، وفي نقص أو ضياع
الدين نقص أو ضياع لها جميعاً، ومن فقه سماحته للواقع نصحه المتكرر
للقائمين على وسائل الإعلام في العالم الإسلامي، حيث قال: "يجب على وسائل
الإعلام التي يتولاها المسلمون أن ينزهوها عن ما حرم الله، وأن يحذورا
البث الذي يضر المجتمع، حيث يجب أن تكون هذه الوسائل مركزة على ما ينفع
الناس في دينهم ودنياهم وأن يحذروا أن تكون عوامل هدم وأسباب إفساد لما
يبث فيها، وكل واحد من المسئولين الإعلاميين مسئول عن هذا الشيء على حسب
قدرته"(مجموع فتاوى ومقالات متنوعة ج/5 ص /266، 267) ومن واقعية سماحته -
رحمه الله - أنه كان داعية عامة: فلم يجعل بينه وبين الناس برجاً عاجياً
يمنعه منهم ويحجبه عنهم، ولم يسكن صومعة منعزلة تمنع الناس من استشارته
واستفتائه والاستئناس برأيه، لم يغلق بابه في وجه أحد، ولم يضيق صدره
بلقاء أحد، ولم يدخر جهده في مساعدة أحد، لم يقتصر على نوع معين من
الدعوة، ولم يتخصص بفئة معينة من فئات المجتمع يدعوهم ويوجههم، بل كانت
مجالسه - رحمه الله- تغصُّ بالناس من كل الأصناف ومن مختلف الأعمار
والأعمال والأجناس: الشيوخ والكهول والشباب والرجال والنساء والعامة
والخاصة والمواطنين والوافدين والزائرين، كان يفتي الناس في كل وقت: في
بيته، وفي مسجده، وفي الطريق، وفي المكتب، وفي كل الأحيان والأوقات
المتاحة، وبسبب ذلك، فقد جعل الله لفتاويه القبول عند الناس كبيرهم
وصغيرهم، عالمهم وجاهلهم داخل المملكة وخارجها، ولذلك نسمع دائماً سؤال
الناس عن رأي سماحته في هذه المسألة أو تلك، وإذا ذُكرت لأحد فتوى الشيخ
أو قوله أو رأيه فلا يتردد في القبول به والتسليم لرأيه إلا ما ندر جداً،
ولهذا كان قوله معتمد ورأيه مقدَّم وفتواه مقبولة دون مراجعة وهذا من فضل
الله وحده عليه، وهنا لا بد من التنبيه على أن الناس إزاء مسألة فقه
الواقع طرفي نقيض، فالأول يتمثل في الفريق الذي أغرق في فقه الواقع فأفرط
في التمسك به وفرَّط في غيره، مع قلة بضاعة في العلم الشرعي وضعف في
التأصيل، وانصراف شبه كامل إلى التحليلات السياسية البحتة متغافلين عن أن
من أقوى مقومات فقه الواقع هو العلم الشرعي والتأصيل المنهجي.
أما
الفريق الثاني، فيعاني من فقر شديد في القدرة على الدراسة الشرعية
التحليلية الناضجة للمشكلات المعاصرة، فعندما تطرح قضية عملية تتطلب فهماً
شاملاً وعميقاً، ووضع حلول ضمن أطر الإسلام وضوابط الشريعة، فإنهم يقفون
حائرين، إذ لم تستطع أذهانهم تجاوز النصوص التي حفظوها، وفهموا جهلاً
منهم أنها جاهزة للإسقاط على أي زمان ومكان، لقد عد المحققون من العلماء
فقه الواقع من أساسيات تطبيق الأحكام الشرعية، وهو ما يطلقون عليه "تحقيق
المناط"، حيث يعرفه الشاطبي بقوله: "أن يثبت الحكم بمدركه الشرعي لكن يبقى
النظر في تعيين محله" (الموافقات 4/47). ويومئ الشاطبي - رحمه الله - إلى
أهمية مراعاة الواقع و الفقه في أحواله وتشعباته، فيقول: " المنافع
والمضار عامتها أن تكون إضافية لا حقيقية، ومعنى إضافية: أي أنها منافع أو
مضار في حال دون حال، وبالنسبة إلى شخص دون شخص، أو وقت دون وقت… فكثير من
المنافع، تكون ضرراً على قوم لا منافع، أو تكون ضرراً في وقت أو حال، ولا
تكون ضرراً في آخر" (الموافقات، 2/26-27. لقد كانت الآيات القرآنية تتنزل
مراعية الظروف التي كان يعيش فيها النبي - صلى الله عليه وسلم – وأصحابه،
وكان تنزيل النبي - صلى الله عليه وسلم - للأحكام الشرعية في واقع المجتمع
الإسلامي عملا في غاية الدقة، حيث كان يراعي خصائص النفس البشرية، وظروف
الناس وواقعهم، فقد كان - صلى الله عليه وسلم - يجيب عن نفس السؤال
بإجاباتٍ متعددةٍ، تختلف باختلاف حال السائل، فحين سئل - صلى الله عليه
وسلم - عدة مرات "أوصني"، فإن إجاباته قد اختلفت باختلاف السائلين، فمرةً
قال: (( لا تغضب)) رواه البخاري، ومرةً أخرى أجاب: ((اعبد الله كأنك تراه،
واعدد نفسك في الموتى)) رواه الطبراني بسندٍ صحيح، وثالثة قال: (( أوصيك
بتقوى الله )) رواه أحمد وأبو يعلى بسندٍ صحيح، ومن هنا فإن التقصير في
معرفة الواقع وظروفه وملابساته كالتقصير في فهم أحكام الخطاب الشرعي كما
بيَّن ابن القيم ذلك عند حديثه عن أنواع التقصير الذي يمكن أن يحدث بقوله:
(تقصير في معرفة الشريعة، وتقصير في معرفة الواقع وتنزيل أحدهما على
الآخر)(الطرق الحكمية80)، ومن فقه هذا الإمام لأولويات واقعه تقديمه
للمصلحة العامة على المصالح الخاصة: فالواجب المتعلق بحق الجماعة أوكد من
الواجب المتعلق بحق الفرد، عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -، في قصة
حنين، قال: لما أعطى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما أعطى من تلك
العطايا في قريش وقبائل العرب، ولم يكن في الأنصار منها شيء وجد هذا الحي
من الأنصار في أنفسهم حتى كثرت فيهم القالة حتى قال قائلهم: لقي رسول الله
- صلى الله عليه وسلم – قومه، فدخل عليه سعد بن عبادة - رضي الله عنه –
فقال: يا رسول الله: (( إن هذا الحي قد وجدوا عليك في أنفسهم لما صنعت في
هذا الفيء الذي أصبت قسمت في قومك وأعطيت عطايا عظاماً في قبائل العرب ولم
يكن في هذا الحي من الأنصار شيء، قال: فأين أنت من ذلك يا سعد، قال: يا
رسول الله ما أنا إلا امرؤ من قومي، قال - صلى الله عليه وسلم -: فاجمع لي
قومك في هذه الحظيرة، قال فخرج سعد - رضي الله عنه - فجمع الناس في تلك
الحظيرة، قال: فجاء رجال من المهاجرين، فتركهم فدخلوا، وجاء آخرون، فردهم
فلما اجتمعوا أتاه سعد فقال: قد اجتمع لك هذا الحي من الأنصار قال: فأتاهم
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فحمد الله وأثنى عليه بالذي هو له أهل
ثم قال: يا معشر الأنصار ما قالة بلغتني عنكم، وجِدَة وجدتموها في
أنفسكم؟!!. ألم آتكم ضُلالاً فهداكم الله، وعالة فأغناكم الله، وأعداء
فألف الله بين قلوبكم؟ قالوا: بلى الله ورسوله أمنُّ وأفضل، قال: ألا
تجيبونني يا معشر الأنصار؟ قالوا: وبماذا نجيبك يا رسول الله ولله ولرسوله
المن والفضل؟. قال: أما والله لو شئتم لقلتم فلصدقتم وصُدَّقتم؛ أتيتنا
مكذباً فصدقناك، ومخذولاً فنصرناك، وطريداً فآويناك، وعائلاً فأغنيناك،
أوجدتم في أنفسكم يا معشر الأنصار في لعاعة من الدنيا تألَّفْتُ بها
قوماً؛ ليسلموا، ووكلتكم إلى إسلامكم، أفلا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب
الناس بالشاة والبعير، وترجعون برسول الله - صلى الله عليه وسلم - في
رحالكم؟!!! فوالذي نفس محمد بيده لولا الهجرة لكنتُ امرأ من الأنصار، ولو
سلك الناس شعباً وسلكت الأنصار شعباً لسلكت شعب الأنصار، اللهم ارحم
الأنصار وأبناء الأنصار وأبناء أبناء الأنصار قال: فبكى القوم حتى أخضلوا
لحاهم، وقالوا: رضينا برسول الله قسماً وحظاً، ثم انصرف رسول الله - صلى
الله عليه وسلم – وتفرقنا)) رواه البخاري ومسلم وأحمد. قال الشنقيطي -
رحمه الله -: "في قصة حنين استطاب النبي - صلى الله عليه وسلم - نفوس
الغزاة عن الغنيمة؛ ليؤلف بها قلوب المؤلفة قلوبهم لأجل المصلحة العامة
للإسلام والمسلمين". (أضواء البيان ج2/ص58). ويتجلى منهج سماحته في مراعاة
المصالح العامة أنه نهج منهج العالمية والشمول في الدعوة: فلم يعِشْ لنفسه
أبداً ولم يمثِّل بلده، بل كان يعيش للمسلمين جميعاً، يحمل همَّ الجميع،
ويتفاعل مع قضايا الكل، لا يألو جهداً ولا يدَّخر وسعاً ولا يتخلَّف عن
واجب ولا يُعرض عن نصرة مسلم. ما من قضية من قضايا المسلمين إلا وله فيها
نصيب، وما من كربةٍ تحلُّ ببلد مسلم إلا وكان من أول الداعمين والمعينين،
وما من عالم أو داعية في بلد إلا ويلجأ بعد الله - تعالى -إلى الشيخ
استشارةً واستعانةً واستمداداً واستنصاراً، لقد تجاوزت جهوده حدود وطنه
لتصل إلى أقطار العالم الإسلامي وإلى كافة ديار الإسلام والمسلمين في ربوع
العالم. ومن ذلك: أ- دعَم المؤسسات والمراكز الإسلامية المنتشرة في كافة
أنحاء العالم الإسلامي، والتي تقوم بأمور الدعوة والتعليم إلى الله ورعاية
شؤون المسلمين وبخاصة الأقليات المستضعفة ضد التيارات التي تريد اجتثاثهم
فجنَّد جنوداً وأقام مراكز وأرسل دعاة لأغلب بلدان العالم. ب دعم الجهاد
الإسلامي ودعا المسلمين القادرين على مساعدة ودعم الجهاد والمجاهدين،
وخاصة في أفغانستان والبوسنة والهرسك والشيشان وكوسوفا والصومال وإرتيريا
وبورما وفلسطين.
ج-
اهتمَّ بالدعاة وساعدهم وكفلهم، حتى بلغ عدد الدعاة الذين كفلهم أكثر من
ألفي داعية في العالم الإسلامي كله، كلهم من حملة العقيدة الصافية
ينشرونها ويدعون الناس إليها، وبلغ من عالمية دعوته أنه كان في أكثر
كتاباته ومواعظه ومحاضراته يتعدى بنصيحته الإنس إلى الجن، فكان كثيراً ما
يردد: " إن على جميع الثقلين أن يؤمنوا بالله وحده "، يأتيه الناس في موسم
الحج للسلام عليه وعرض ما يواجههم من مشاق ومتاعب، فسائل يسأل: يا سماحة
الوالد أنا ابنكم من أمريكا وأسأل عن كذا، وثانٍ يقول: يا سماحة الشيخ نحن
من مسلمي فرنسا، ولدينا كذا وكذا فكيف نتعامل مع ذلك؟، وثالث يقول: يا
سماحة الشيخ أنا قادم من جزر القمر وأريد أن تدعو لي، ورابع يقول: يا
سماحة الشيخ نحن من أبناءكم من المسلمين من ألمانيا أو بريطانيا أو الصين
… إلى آخر تلك الأسئلة التي تنبئُ عن عالمية هذا الإمام وسعة علمه ورفعة
شأنه في أنحاء الدنيا، ومن منهجه في مراعاة الواقع وأولوياته، أنه قدم
وحدة الصف على الخلافات الجزئية: وهذا مقرر في محكمات الشريعة الغراء،
فالله - سبحانه وتعالى - حرم على عباده التفرق والتنازع، وفرض عليهم أن
يعتصموا بحبل الله جميعاً، حتى يكونوا أهلاً للنصر والتمكين في الدنيا،
ومستحقين لرضوان الله وجنته في الآخرة قال الله - تعالى-: (واعتصموا بحبل
الله جميعاً ولا تفرقوا)، وقال الله - تعالى -: (ولا تكونوا كالذين تفرقوا
واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات) ، وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (( ذروني ما تركتكم، فإنما هلك من
كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا نهيتكم عن شيء
فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بأمر فأتو منه ما استطعتم)) متفق عليه، وعن أبي
موسى - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعثه ومعاذاً إلى
اليمن وقال لهما: (( يسرا ولا تعسرا، وبشرا ولا تنفرا، وتطاوعا ولا
تختلفا)) أخرجه البخاري، وقد تجلى منهج سماحته في هذا الباب في فقهه في
التعامل مع ولاة الأمر؛ لإدراكه أن من أصول الدين الراسخة، وثوابته
الراسية وضوابطه الظاهرة السمع والطاعة لولاة الأمور، جمعاً للكلمة وقوةً
للدولة وحفظاً للحقوق ومنعاً للأضرار والشرور، فالعلماء والولاة أُسس
البناء وقوام البقاء، وربط الإسلام بينهما في تقرير الحكم الشرعي وتنفيذه.
عاصر
- رحمه الله - ملوك هذه الدولة وأمراءها فآزرهم وشدَّ من عضدهم ونصحهم
وصدَقَهم وعرف حقهم وبيَّن فضلهم ونصرهم دعاءً وثناءً وعملاً وإسهاماً،
ولقد تبلور منهجه في التعامل مع الحكام في أمور عديدة: الأول: يرى طاعتهم
في كل صغيرة وكبيرة من الأمور مستدلاً بقول الله - تعالى -: (يا أيها
الذين أطيعوا الله والرسول وأولي الأمر منكم) وبقول النبي - صلى الله عليه
وسلم: (( أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة)) رواه أحمد، الثاني: أنه يرى
أن الطاعة إنما تكون في المعروف استناداً إلى قول النبي - صلى الله عليه
وسلم -: (( إنما الطاعة في المعروف)) رواه البخاري الثالث: كان - رحمه
الله - يرى أن الصبر على جور الأئمة وظلمهم أصل من أصول الشريعة، وأنَّ
ضياع هذا الأصل سبب في الفتن والمحن، قال - صلى الله عليه وسلم -: (( من
كره من أميره شيئاً فليصبر، فإنه من خرج من السلطان شبراً مات ميتة
جاهلية)) رواه البخاري ومسلم. الرابع: كان يرى النصح للولاة سراً فيما صدر
منهم من منكرات والأخذ بأيديهم إلى الحق وتبصيرهم به مع التحذير العام من
المنكر دون تخصيص أو تشهير بالأسماء؛ لأن في ذلك تأليباً للعامة، وقد قال
- صلى الله عليه وسلم -: (( من أراد أن ينصح لسلطان بأمر فلا يبذله
علانية، ولكن ليأخذ بيده فيخلو به، فإن قبل منه فذاك، وإلا كان أدى الذي
عليه)) أخرجه أحمد والحاكم وصححه بعض أهل العلم بطرقه، قال -تغمده الله
بواسع رحمته-: ليس من منهج السلف التشهير بعيوب الولاة وذكر ذلك على
المنابر؛ لأن ذلك يفضي إلى الفوضى وعدم السمع والطاعة في المعروف، ويفضي
إلى الخوض الذي يضر ولا ينفع، ولكن الطريقة المتبعة عند السلف النصيحة
فيما بينهم وبينه والكتابة إليه، أو الاتصال بالعلماء الذين يتصلون به حتى
يوجَّه إلى الخير، وإنكار المنكر يكون دون ذكر من فعله، ويكفي إنكار
المعاصي والتحذير منها من غير ذكر أن فلاناً يفعلها لا حاكم ولا غير
حاكم"أ. ه. الخامس: كان - رحمه الله - يدعو لهم بالتوفيق والتسديد ويكثر
من ذلك في كلماته ومحاضراته ودروسه، كما قال - صلى الله عليه وسلم -:
((خيار أئمتكم الذين تصلون لهم ويصلون لكم)) أي تدعون لهم ويدعون لكم،
ويقول الإمام أحمد - رحمه الله -: " لو كانت لي دعوة مجابة لصرفتها
للسلطان، وكان - رحمه الله - يحذر ممن يشقون عصا الطاعة ويدعون المسلمين
إلى الخروج على من ولاهم الله أمرهم بالتظاهر وخلع البيعة أو بالتفجير
والتدمير والتخريب الذين يتمنون أن تعود البلاد إلى ما كانت عليه قبل
توحيد الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود لها وبنائها على التوحيد
والسنة مما جعلها مضرب المثل في الأمن والأمان والإيمان يريدوها أن تعود
إلى قطع الطريق، وسرقة الحجيج، والحكم بسوالف البادية، وقوانين الجاهلية،
وأن تتحول إلى غابةً يأكل قويها ضعيفها، فكان يقول: "هذه النشرات التي
تصدر من الفقيه أو من المسعري أو من غيرهما من دعاة الباطل ودعاة الشر
والفرقة يجب القضاء عليها وإتلافها وعدم الالتفات إليها، ويجب نصيحتهم
وإرشادهم للحق، وتحذيرهم من هذا الباطل، ولا يجوز لأحد أن يتعاون معهم في
هذا الشر، ويجب أن ينصحوا، وأن يعودوا إلى رشدهم، وأن يدَعوا هذا الباطل
ويتركوه، ونصيحتي للمسعري والفقيه وابن لادن وجميع من يسلك سبيلهم أن
يدَعوا هذا الطريق الوخيم، وأن يتقوا الله ويحذروا نقمته وغضبه، وأن
يعودوا إلى رشدهم، وأن يتوبوا إلى الله مما سلف منهم، والله - سبحانه- وعد
عباده التائبين بقبول توبتهم، والإحسان إليهم، كما قال - سبحانه -: (قُلْ
يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا
مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا
إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ
وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا
تُنْصَرُونَ)، وقال - سبحانه -: (وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا
أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)، والآيات في هذا المعنى
كثيرة. (مجلة البحوث الإسلامية العدد 50 ص 7- 17)، ومن صور حرصه على وحدة
الصف أنه دعا إلى نبذ الحزبية الضيقة التي تحجم الدعوة والعمل للدين في
أضيق السبل وتسبب الخلاف بين المسلمين: فكان يدعو إلى الأخذ بالحق والتمسك
به. يقول - رحمه الله -: "الواجب على كل إنسان أن يلتزم بالحق، وألا يلتزم
بمنهج جماعة معينة، ولكن يلتزم بالحق أما أن يلزم قولهم لا يحيد عنه فهذا
لا يجوز، وعليه أن يدور مع الحق حيث دار، يعين الجماعات الأخرى في الحق
ولكن لا يلتزم بمذهب معين لا يحيد عنه ولو كان باطلاً، ولو كان غلطاً،
فهذا منكر وهذا لا يجوز..." وحرصاً منه على وحدة الصف أيضاً، كان موقفه من
الاتجاهات والجماعات الإسلامية المعاصرة مثال القائم بالحق الملتزم به عند
الاختلاف والفتن حيث كان ينصح من خالف الحق ويدعو له بالهداية ويبيِّن بعض
الجوانب الإيجابية لدى هذه الاتجاهات ويشجعها ويدعو لتوجيهها الوجهة
المناسبة، ويؤكد على تلك الاتجاهات بضرورة سلوك منهج السلف في فهم الدين
والعمل به، أما علاقته بقيادات تلك الجماعات فكانت علاقة تناصح، كان يوجه
لهم الخطابات التي يوضح فيها وجهة نظره فيما يراه من خطأ وقعوا فيه، وكان
أسلوبه في النصح غاية في الرفق والرغبة في إيضاح الحق للمخالف، ومن حرصه
على وحدة الصف أيضاً: دعوته إلى نبذ التعصب المذهبي والدوران مع الدليل
أينما كان، فهو الحجة على ما سواه عملاً بقوله تعالى: (وما آتاكم الرسول
فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا)، وكان دائماً يدعو إلى الخروج من دائرة
التعصب المذموم الذي يقود إلى الفرقة والتشرذم إلى أفق الإتباع المحمود،
وكان كثيراً ما يتمثل قول إمام دار الهجرة مالك - رحمه الله -: كل يؤخذ من
قوله ويُردُّ إلا صاحب هذا القبر، وأشار إلى قبر النبي - صلى الله عليه
وسلم - لقد كان - رحمه الله - يدرك تمام الإدراك بما آتاه الله من نور
البصيرة أن التعصب المذهبي والحزبية المقيتة مما يقود إلى وقوع الخلاف بين
المسلمين، وأن هذا ممقوت حتى ولو كان سببه الاختلاف على مسائل شرعية أو
أمور منهجية، ويؤيد هذا الفقه الدقيق الحديث الذي رواه جندب بن عبد الله
البجلي - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((
اقرءوا القرآن ما ائتلفت عليه قلوبكم، فإذا اختلفتم فقوموا عنه)) أخرجه
البخاري، فإذا ساغ للمسلمين أن ينفضوا عن قراءة القرآن إذا كان الاجتماع
على ذلك سيؤدي إلى الاختلاف، فكيف بما دونه من المسائل التي تتنوع فيها
الأفهام وتتعدد فيها الآراء؟!!!. وكان كثيراً ما ينبه على أنه لا إنكار في
مسائل الاجتهاد التي اختلف فيها الأئمة، ومما يدخل في هذا الباب أن ترك
المستحب مستحب من أجل جمع الكلمة: قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله
-: " فالعمل الواحد يكون فعله مستحباً تارة، وتركه مستحباً تارة باعتبار
ما يترجح من مصلحة فعله وتركه بحسب الأدلة الشرعية، والمسلم قد يترك
المستحب إذا كان في فعله فساد راجح على مصلحته، كما ترك النبي - صلى الله
عليه وسلم - بناء البيت على قواعد إبراهيم خوفاً من تنفيرهم عن الإسلام
لحدثان عهدهم به، ولذلك استحب الأئمة أحمد وغيره أن يدع الإمام ما هو عنده
أفضل إذا كان فيه تأليف المأمومين، ففعل المفضول لمصلحة الموافقة والتأليف
راجحة على مصلحة تلك الفضيلة، وكان ذلك جائزاً" (مجموع الفتاوى 24/195).
ومما يدخل في ذلك أيضاً أن ولي الأمر والقاضي ونحوهما يطاع في مسائل
الاجتهاد؛ لئلا تقع الفرقة والاختلاف، قال ابن أبي العز في شرح الطحاوية:
"وقد دلت نصوص الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة أن ولي الأمر، وإمام
الصلاة، والحاكم، وأمير الحرب، وعامل الصدقة، يطاع في مواضع الاجتهاد،
وليس عليه أن يطيع أتباعه في موارد الاجتهاد، بل عليهم طاعته في ذلك، وترك
رأيهم لرأيه، فإن مصلحة الجماعة والائتلاف، ومفسدة الفرقة والاختلاف، أعظم
من أمر المسائل الجزئية" (شرح الطحاوية 376). ومن فقه سماحته لأولويات
الواقع: أنه قدم العمل المتعدي النفع على العمل الذي نفعه قاصر: فالأولوية
عنده للعمل الأفضل الذي يكون أكثر نفعا للآخرين، وكل عمل يتعلق بإصلاح
المجتمع ونفعه فهو أفضل من العمل المقصور النفع على صاحبه، وكان - رحمه
الله - يرى أن أجلَّ الأعمال نفعاً للبلاد والعبادً وبركة على الأجيال
وتحقيقاً للأمن والرخاء والتمكين هو: الدعوة إلى التوحيد، كما قال -
تعالى-: (وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض
كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من
بعد خوفهم أمناً يعبدونني لا يشركون بي شيئاً). وكما في قوله - تعالى-:
(الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون) رفع -
رحمه الله - لواء الدعوة إلى توحيد الله - تعالى -وإفراده بالعبادة وإخلاص
العمل له وحده في كافة أنحاء العالم، وكرَّس جهده لإعلاء الحق وإظهار
التوحيد ومحو الباطل وطمس معالم الشرك وصرف جلَّ اهتمامه وغالب وقته لهذا
المطلب العظيم، وقد اتبع في سبيل ذلك وسائل عديدة وطرق متنوعة: فألَّف
الرسائل النافعة التي تبين معنى التوحيد وأهميته ومقتضياته ونواقضه،
وألَّف الرسائل التي تحذِّر من الشرك وماهيته وأنواعه وكيفية النجاة منه،
ووضع الرسائل التي تحذِّر من السحرة والكهان والمشعوذين، وبيان حكم كل
ذلك، وكتب رسائل تبيِّن أن الحكم لله وحده، وأن إقامة شرعه من أهم قضايا
التوحيد، ووجه النصائح للأمة بضرورة تطبيق الشريعة والعمل بأحكامها ووجوب
الالتزام بالدين اعتقاداً وقولاً وعملاً وأن الدين شامل للحياة كلها في كل
المجالات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، وبلغ مجموع ما ألَّفه وكتبه
وأملاه عن مسائل التوحيد والعقيدة والدعوة تسع مجلدات من مجموع فتاواه،
وما زال في التوحيد بدر كماله يحققه للسامعين وللقراء ويعلن حرباً ليس
فيها هوادة على أهل إلحادٍ، ومن عبد قبراً كما دعا - رحمه الله - إلى
التمسك بالسنة والدعوة إليها؛ لأن إظهار السنة من أقوى أسباب العز والقوة
كما أن مخالفتها من أسباب الذلة والصغار، عن ابن عمر - رضي الله عنهما -
قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (( بعثت بين يدي الساعة
بالسيف حتى يعبد الله وحده لا شريك له وجعل رزقي تحت ظل رمحي وجعلت الذلة
والصغار على من خالف أمري ومن تشبه بقوم فهو منهم)) رواه الإمام أحمد وأبو
داود، يقول - رحمه الله - في رسالته المفيدة السنة ومكانتها في التشريع
الإسلامي: "وأما السنة فلا نزاع ولا خلاف في أنها أصل مستقل، وأنها الأصل
الثاني من أصول الإسلام، وأن الواجب على جميع المسلمين، بل على جميع الأمة
الأخذ بها، والاعتماد عليها، والاحتجاج بها إذا صح السند عن رسول الله -
عليه الصلاة والسلام - وقد دل على هذا المعنى آيات كثيرات من كتاب الله،
وأحاديث صحيحة عن رسول الله - عليه الصلاة والسلام -، كما دلَّ على هذا
المعنى إجماع أهل العلم قاطبة على وجوب الأخذ بها والإنكار على من أعرض
عنها أو خالفها...، إلى أن قال: فالواجب على جميع الأمة أن تعظِّم سنة
رسول الله - عليه الصلاة والسلام - وأن تعرف قدرها وأن تأخذ بها وتسير
عليها..." إلى آخر كلامه - رحمه الله - في تلك الرسالة.
وبالسنة
البيضاء يرفع رأسها بكل مكان كي يكون لها نشرُ على البدعة السوداء يدمغ
رأسها، فإن علاج البدعة الدمغ والبترُ وقد حذَّر - رحمه الله - من البدع
بكافة أشكالها وله في ذلك رسائل كثيرة منها: رسالة في التحذير من بدعة
الاحتفال بالمولد النبوي، ورسالة في بدعية الاحتفال بليلة النصف من شعبان،
ورسالة في حكم الاحتفال بليلة الإسراء والمعراج، ورسالة في الرد على
الوصية المنامية المزعومة من المدعو أحمد، خادم الحجرة النبوية، ومن
الأعمال التي كان يحث عليها لتعدي نفعها: الدعوة عبر الفضائيات، فكما هو
معلوم أن كثيراً من العلماء والدعاة كانوا قد أحجموا عن المشاركة فيها،
لكنه - رحمه الله - بواسع نظرته ونافذ بصيرته وفقهه بالواقع ومدى تأثير
الإعلام على الناس، كان يفتي بوجوب المشاركة فيها، كما في إجابته على سؤال
منشور في كتابه النافع " مجموع فتاوى ومقالات متنوعة "(ج/5، ص/266، 267)
حيث قال: " ونصيحتي لطالب العلم أن لا يتقاعس عن الدعوة ويقول: هذا لغيري،
بل يدعو إلى الله على حسب ما لديه من علم، ويجتهد في أن يقول بالأدلة وألا
يقول على الله بغير علم، ولا يحقر نفسه ما دام عنده علم وفقه في الدين،
فالواجب عليه أن يشارك في الخير من جميع الطرق في وسائل الإعلام وغيرها،
ولا يقول هذا لغيري، فإن كل الناس إن تواكلوا؛ بمعنى كل واحد يقول: هذا
لغيري تعطلت الدعوة؛ وقل الداعون إلى الله، وبقي الجهلة على جهلهم، وبقيت
الشرور على حالها، وهذا غلط عظيم، بل يجب على أهل العلم أن يشاركوا في
الدعوة إلى الله أينما كانوا في المجتمعات الأرضية والجوية، وفي القطارات
والسيارات، وفي المراكب البحرية، فكلما حصلت فرصة انتهزها طالب العلم في
الدعوة والتوجيه... الخ"، ولما سئل عن بعض الدعاة الذين يحجمون عن
المشاركة في الصحف بسبب رفضهم لسياسة الصحيفة أو المجلة التي تعتمد على
الإثارة في تسويق أعدادها، قال بعد أن وجه نصيحة للقائمين على هذه الصحف
أن يتقوا الله - تعالى -فيما ينشرون، ثم قال: " يجب على الدعاة أن يطرقوا
هذا المجال فيما يكتبون وفيما ينشرون، ويحذروا من ما حرم الله، وهذا
واجبهم في خطبهم وفي اجتماعاتهم مع الناس فكل المجالس مجالس دعوة، أينما
كان فهو في دعوة، سواء في بيته أو في زيارته لإخوانه، أو في مجتمعه مع أي
أحد، فالواجب عليه أن يستغل هذه الوسائل وسائل الإعلام وين