الأرض كوكب صالح للسكنى بفضل مجموعة من الأوضاع الملائمة للمعيشة. ومناخ الأرض يساعد على الحياة لأن تركيزات غازات الدفيئة في الغلاف
الجوي، وعلى الأخص ثاني أوكسيد الكربون، تحبس جزءاً من ضوء الشمس المنعكس
بعيداً عن سطحها، مما يعطي الكوكب دفئاً معتدلاً. لكن هذا يتغير. فمنذ
الثورة الصناعية، أدت النشاطات البشرية ـ وعلى الخصوص استعمال الوقود
الأحفوري وأنماط استخدام الأراضي والزراعة وزوال الغابات ـ الى ازدياد
تركيزات غازات الدفيئة في الغلاف الجوي، ما تسبب في ارتفاع
معدل درجات الحرارة. ومقولة أن المناخ يتغير فعلاً باتت الآن حقيقة مقبولة
عالمياً. حتى أن المعارضين القلائل الذين ما زالوا ينكرون أن تغير المناخ
هو من صنع الانسان يوافقون على أنه يحدث، لكن كمظهر من دورة طبيعية.
بحلول العام 2007 أفادت الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ (IPCC)،
وهي الهيئة العلمية العليا التابعة للأمم المتحدة التي أنيطت بها المسألة،
بدرجة عالية من الدقة، أن أسباباً بشرية تكمن وراء معظم زيادات درجات
الحرارة العالمية التي تمت ملاحظتها. فقد ازدادت تركيزات ثاني أوكسيد
الكربون في الغلاف الجوي من نحو 280 جزءاً في المليون في عصر ما قبل التصنيع الى نحو 430 حالياً. أما على مستوى 550 جزءاً في المليون، الذي يمكن بلوغه في وقت مبكر لا يتعدى سنة 2035، فقد يرتفع معدل درجات الحرارة العالمية بأكثر من درجتين مئويتين. وبموجب سيناريو التجاهل (business-as-usual)، فإن مخزون غازات الدفيئة
يمكن أن يتعدى ثلاثة أضعاف مع نهاية القرن، ما يجعل نسبة احتمال ارتفاع
الحرارة أكثر من 5 درجات مئوية خلال العقود المقبلة تصل الى 50 في المئة على الأقل. ونطاق هذه الزيادة يمكن أن توضحه حقيقة أن المناخ هو حالياً أدفأ 5 درجات مئوية مما كان عليه في العصر الجليدي الأخير، الذي ساد منذ أكثر من عشرة آلاف سنة.
وقد ازداد مقدار الكربون المحتجز في المحيطات، مما يتسبب في زيادة تدريجية لكن مطردة في الحموضة التي تهدد النظم الايكولوجية البحرية. كما يتسبب ارتفاع درجات حرارة المياه في ابيضاض كثير من الشعاب المرجانية. وازدياد معدل درجات الحرارة أدى بشكل مطرد الى ذوبان الجليد في المناطق القطبية وكذلك الأنهار الجليدية في أنحاء
العالم. وارتفاع حرارة مياه المحيطات قد يجعل مستوى البحار يرتفع بمقدار
يصل الى 59 سنتيمتراً بحلول سنة 2100 حسب تقديرات تقرير الهيئة الحكومية
الدولية المعنية بتغير المناخ لسنة 2007، أو حتى بمقدار يصل الى 5 أمتار
اذا ما أُخذ في الحسبان ذوبان جزء من الصفيحة الجليدية في القارة المتجمدة الجنوبية.
وتتكهن الهيئة بأن 20 الى 30 في المئة
من الأنواع سوف ينقرض اذا ارتفع معدل درجات الحرارة أكثر من درجة مئوية
واحدة، ما لا يمكن تجنبه فعلياً. ومن المتوقع أيضاً أن تنشأ أحداث وتغيرات
مناخية متطرفة.
ويرى
عدد من الدراسات الحديثة أن تقديرات التقرير التقييمي الرابع الذي أصدرته
الهيئة عام 2007 كانت متحفظة كثيراً، وأن التوقعات يجب أن تُعدَّل لتعكس
تأثيرات أقوى. فعلى سبيل المثال، كانت انبعاثات الدول النامية تنمو بسرعة
أكبر كثيراً مما كان يُعتقد سابقاً، ومن المتوقع الآن أن تتجاوز انبعاثات
الدول المتقدمة بحلول سنة 2010. نقطة التقاطع هذه كانت متوقعة من قبل لسنة
2020 أو حتى لما بعدها. والتوقعات المرجعية لانبعاثات ثاني أوكسيد الكربون في الصين، الصادرة عن وكالة الطاقة الدولية (IEA)، على سبيل المثال، تم تنقيحها نحو الأعلى بين عامي 2000 و2007. وفي أيلول (سبتمبر) 2009 توصل علماء أميركيون الى دليل بأن سماكة الصفيحة الجليدية في القارة القطبية الجنوبية انخفضت بنسبة 53 في المئة منذ عام 1980، ما يخلق امكانية لارتفاع مستويات البحار بشكل أسوأ مما هو متوقع.
كريستوفر فيلد، وهو عضو أميركي رئيسي في الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ ومدير مؤسس لدائرة الايكولوجيا العالمية لمعهد كارنيغي في جامعة ستانفورد، قال في الاجتماع السنوي للجمعية الأميركية لتقدم العلوم في شباط (فبراير) 2009 إن وتيرة تغير المناخ تفوق التوقعات، لأن الانبعاثات منذ العام 2000 فاقت التقديرات التي استعملت في تقرير الهيئة للعام 2007. اللورد نيكولاس ستيرن قال أيضاً في العام
2008 إن التقرير الذي أعده عام 2006 لمصلحة الحكومة البريطانية حول
التأثيرات الاقتصادية لتغير المناخ، والذي أيد اتخاذ اجراءات قوية وفورية،
لم يعط المشكلة حجمها الحقيقي. وأكد: "نحن قللنا تقدير الأخطار... وقللنا
تقدير الأضرار المرتبطة بالزيادات في درجات الحرارة... وقللنا احتمالات الزيادات في درجات الحرارة".
إن تحدي تغير المناخ هو تحدٍ عالمي في أسبابه وفي حلوله على حد سواء. وهو شامل من حيث أن معظم النشاطات البشرية تساهم في المشكلة، وسوف تتأثر أيضاً بتأثيراتها.
وانبعاثات غازات الدفيئة
هي مثال كلاسيكي على ما يسميه الاقتصاديون "مظهراً خارجياً": التكاليف
يشعر بها الجميع حول العالم، وليس فقط الأفراد أو البلدان المسؤولة عن
الانبعاثات. والضرر المرتبط بتغير المناخ لا يوزع تناسباً وفقاً
للانبعاثات، إذ إن العبء يتقاسمه أيضاً أولئك الذين يساهمون فيه بمقدار أقل. وكمشكلة اضافية، فإن الأضرار الأكثر خطراً لن تلحق بأجيال الحاضر وإنما بأجيال المستقبل، الذين ليس لديهم صوت قوي على طاولة المفاوضات.
وأخيراً، هناك الجانب الموقت للمشكلة. فتكاليف تخفيف تغير المناخ والتكيف معه سوف يتم تكبدها على الفور، بينما الفوائد ستكون في شكل
أضرار مستقبلية يتم العمل لتفاديها، وهذه يصعب تحديد مقدارها. وبكلمات
أخرى، يجد السياسيون أن من الصعب تبرير التكاليف الفورية للحصول على فوائد
مستقبلية.
لكن النتائج الاقتصادية للتقاعس ضخمة، إذ يقدَّر أن مقابل كل ارتفاع في معدل درجات الحرارة العالمية مقداره درجة مئوية واحدة، ينخفض النمو الاقتصادي بما بين 2 و3 في المئة. ويقدر الاستطلاع الاقتصادي والاجتماعي العالمي الذي أصدرته الأمم المتحدة سنة 2009 تكاليف التخفيف والتكيف بواحد في المئة من الناتج الاجمالي العالمي (WGP)، وهذه نسبة صغيرة بالمقارنة مع تكاليف وأخطار تأثيرات تغير المناخ. "واذا لم يتخذ اجراء أو تأخر من خلال الاستمرار في سيناريو
التجاهل الحالي، أو حصل تغيير هامشي فقط، فإن الخسارة الدائمة للناتج
الاجمالي العالمي المتوقع يمكن أن ترتفع كثيراً لتبلغ 20 في المئة".
هذه الأرقام سوف تقزِّم خسائر الانهيار الاقتصادي خلال عامي 2008 و2009.
والمعضلة هي أن الشعور بتأثيرات تغير المناخ سوف يكون أكثر حدة في البلدان
النامية، التي تمتلك القدرة الأقل على التغلب على المشاكل والتكيف معها،
تكنولوجياً ومالياً. وهذا يجعل نقل التكنولوجيا وتخصيص البرامج المالية
الملائمة ضروريين لأي اتفاقية عالمية أو اجراء فعال للتعامل مع تغير المناخ.
السؤال
لم يعد ما اذا كان تغير المناخ يحدث أم لا. السؤال الآن هو كيف سيبدي تغير
المناخ نفسه للعيان اقليمياً ومحلياً، وما الذي يمكن فعله بشأنه. بالنسبة
الى الحكومات، القضية الرئيسية هي موازنة النمو الاقتصادي على المدى
القريب مع التنمية المستدامة على المدى البعيد. وهناك عامل معقد هو الشك
العلمي المحيط بتغير المناخ: التأثيرات الصحيحة لتغير المناخ ومواقعها لا
يمكن التكهن بها بدقة مثالية، كما لا يمكن التكهن تماماً وبدقة بما يسمى
"حدود الخطر"، أي الحدود التي يتعذر بعدها وقف التغيرات المناخية.
لكن تقرير "أفد" هذا يرى أن تحدي تغير المناخ يجب معالجته كأي قرار آخر يُتخذ في مواجهة الشك: ادارة مخاطر أو نظام تأمين. وباستخدام مبدأ التأمين، ما دامت هناك أرجحية كافية
لحدوث ضرر جوهري، نتخذ اجراء وقائياً مدروساً تكون تكاليفه مبرّرة تماماً.
والمطلوب هو تقييم صادق لمستوى التأمين الذي يعتبر ضرورياً للوقاية ـ مع
مقدار مقبول من الشك ـ ضد تأثيرات تغير المناخ. والشك ليس عذراً للتقاعس،
ويجب ألا يكون كذلك.
وكما
ذكر سابقاً، تتطلب محاربة تغير المناخ بفعالية جهداً عالمياً جماعياً.
وتقسيم المسؤوليات ـ "مسؤوليات مشتركة لكن متفاوتة"، بحسب اتفاقية الأمم
المتحدة الاطارية بشأن تغير المناخ (UNFCCC) ـ
يصطدم بقضايا العدالة. كيف يجب توزيع المسؤوليات المختلفة بانصاف؟ من دون
الاجابة عن هذا السؤال بشكل ملائم، فان أي اتفاقية تتعلق بتغير المناخ لن
تكون مقبولة ولا مستدامة. وفي الوقت
ذاته، فان أي اتفاقية مقبولة ومستدامة تتعلق بتغير المناخ يجب أن تكون
فعالة أيضاً. ويجب أن تكون مقبولة من الجميع ومحترمة من الجميع وطموحة
بشكل وافٍ ومرنة بما يكفي للتكيف مع المعلومات العلمية والتكنولوجية المتغيرة.
وفيما يؤيد هذا التقرير وجهة النظر القائلة بأن البلدان المتقدمة يجب أن تكون في طليعة الجهد العالمي المتعلق بتغير المناخ، يجب على البلدان النامية أيضاً أن تؤدي دورها. وفضلاً عن ذلك، وفيما لجميع البلدان حق مشروع في التنمية
الاقتصادية، فهذا يجب ألا يتعارض بالضرورة مع استراتيجيات خفض الانبعاثات.
وبمساعدة البلدان المتقدمة، يجب على البلدان النامية أن تكون قادرة على
خفض كثافة انبعاثاتها الكربونية لوضعها على مسار يفضي الى تنمية مستدامة.
وهذا يجب تحقيقه من خلال آليات فعالة لتحولات واستثمارات تكنولوجية ومالية، في اتفاقية ملزمة قانونياً.
استباقاً للمفاوضات التي ستجري في كوبنهاغن، من الواضح أن البلدان النامية مترددة في التقيد بأي التزامات تضع قيوداً جوهرية على نموها الاقتصادي. وهي تشير الى مسؤولياتها ذات الأولوية المتعلقة بتوفير فرص عمل ومستويات معيشة أفضل لشعوبها.
وفي الوقت ذاته، لن تقبل البلدان المتقدمة، وعلى الخصوص الولايات المتحدة، اتفاقية تتعلق بتغير المناخ يُسمح فيها لمطلقي الانبعاثات الكبار بين البلدان النامية بالاستمرار في التنمية القائمة على التجاهل. يجب أن يكون هناك أخذ وعطاء بين المجموعتين المتقدمة والنامية.
منذ "مؤتمر الأطراف" الناجح في بالي في كانون الأول (ديسمبر) 2007، تحقق تقدم قليل في المفاوضات المتعلقة باتفاقية لما بعد 2012 حول تغير المناخ. وتدعو خطة العمل / خريطة الطريق الصادرة في بالي الى هدف بعيد المدى لخفض الانبعاثات العالمية وتنفيذ اجراءات تخفيفية من قبل البلدان المتقدمة والبلدان النامية. واضافة الى التخفيف،
فهي تشمل أيضاً التكيف وتعرية الغابات والتعاون التكنولوجي والتمويل. ومع
الاقتراب السريع لمؤتمر كوبنهاغن، توقفت المفاوضات وكان هناك اتفاق محدود
أو لا اتفاق على الاطلاق بشأن هذه القضايا.
الخلاف ليس فقط بين البلدان المتقدمة والبلدان النامية، بل أيضاً بين البلدان المتقدمة نفسها. فقمّتا مجموعة الثماني (G8) في عامي 2008 و2009 وافقتا على خفض انبعاثات غازات الدفيئة العالمية بنسبة 50 في المئة بحلول سنة 2050، وعلى الحد من ارتفاع درجات الحرارة في أنحاء
العالم بما لا يتعدى درجتين مئويتين. والبلدان النامية لا تريد أن تدعم
هدفاً عالمياً خوفاً من أن تطالب بقبول أهداف متوسطة تؤدي الى الهدف الخاص
بسنة 2050. إلى ذلك، هناك خلاف بين البلدان المتقدمة حول تقاسم عبء خفض
الانبعاثات على المدى القريب. فالاتحاد الأوروبي قادر على الالتزام بخفض
نسبته 20 في المئة بحلول سنة 2020 عن مستويات عام 1990، ويمكنه الذهاب الى 30 في المئة اذا تقيد الآخرون بالالتزام ذاته. وعلى نحو مماثل، سوف تخفض اليابان انبعاثاتها بنسبة 25 في المئة بحلول سنة 2020 عن مستويات عام 1990. ومن جهة أخرى، سوف يؤدي التشريع الأميركي، إذا أصبح قانوناً، الى خفض الانبعاثات بنسبة 17 في المئة بحلول سنة 2020 عن مستويات عام 2005.
كثيرون أملوا أن يستطيع قادة العالم، الذين اجتمعوا في نيويورك في 22 أيلول (سبتمبر) 2009 في إطار قمة عالمية حول تغير المناخ، دفع الأمور الى الأمام كما فعلوا عام 2007 قبل اتفاقية بالي. لكن هذه الآمال تبخرت. وفي خطاب
إثر خطاب، تحدث رؤساء الدول ورؤساء الوزارات عن أهمية وإلحاح مجابهة تغير
المناخ، لكنهم أحجموا عن تقديم تفاصيل لما هم مستعدون للقيام به في مؤتمر كوبنهاغن وما بعده.
وفيما
يعتقد البعض أن التوصل الى اتفاقية قوية ما زال ممكناً، بدأ آخرون يتحدثون
عن "إعلان سياسي" بدلاً من اتفاق تام. هذا الاعلان سوف يثني على الاجراءات
التي تتخذها البلدان أو تخطط لاتخاذها بما يخدم مصالحها (مثل كفاءة الطاقة
والطاقة المتجددة)، فيما تستمر المفاوضات.
المساهمة الضئيلة للاقليم العربي في تغير المناخ من خلال انبعاثات غازات الدفيئة المحدودة الصادرة عنه، وهي أقل من 5 في المئة من الرقم العالمي، تقزّمها ضخامة تعرض الاقليم لتأثيرات تغير المناخ. والبلدان العربية لها مصلحة خاصة في الدفع بقوة للوصول الى اتفاقية قوية تشمل تشكيلة من التدابير الصارمة لتخفيف تغير المناخ والتكيف معه والأهم من ذلك ضمان مساعدة مالية وتقنية للذين يحتاجونها لتحقيق أهدافهم.
والحكومات العربية، كدلالة على رغبتها بالمشاركة في الجهود العالمية للحد من تغير المناخ، يمكنها التشديد على تطوير تكنولوجيات الطاقة النظيفة، خصوصاً في ضوء وفرة موارد الطاقة المتجددة المتاحة في العالم العربي، وبالتحديد طاقة الشمس والرياح والمياه. وأخيراً، فيما تتطلع البلدان العربية الى مفاوضات كوبنهاغن في كانون الأول (ديسمبر) 2009، من المجدي أن تبذل جهدها لصياغة موقف موحد حول القضايا الرئيسية التي على المحك.