الجزائر تخطط لإنشاء مدينة خضراء استعداداً لما بعد نضوب النفط
يحتار الجزائريون عندما يُفكرون في مستقبل مُدنهم التي تمدّدت وتضخّمت بفضل النشاطات النفطية المزدهرة حالياً، والتي يلف الغموض مصيرها بعد نضوب النفط. وتأتي مدينة حاسي مسعود (جنوب) في مقدم تلك المدن التي نمت سريعاً في العقود الأخيرة. إذ غدت أكبر مدن الجنوب، كما أنها تقع في قلب الحقول النفطية. والسؤال الذي يستقطب اهتمام المخططين والباحثين الجزائريين، يتمثّل في إيجاد طريقة للتوفيق بين استثمار الثروة النفطية المرشحة للنضوب في المستقبل، مع التخطيط لتنمية مستدامة في مرحلة ما بعد النفط.
وفي حوار مع «الحياة»، أوضح الدكتور هادي جزائري المتخصّص في هندسة المدن وتخطيطها في جامعة هارفرد الأميركية، أن كلا الهدفين يشكّل تحدياً صعباً. وطرح سؤالاً عن سُبُل إنشاء مدينة جديدة تستجيب ضرورات إنتاج النفط والغاز، وهو رئة الاقتصاد الجزائري، مع تأمين شروط حياة طبيعية ونظيفة للسكان. وبقول آخر، المطلوب في حاسي مسعود بحسب الدراسة التي وضعها الدكتور جزائري، أن يُجمع بين عنصرين ظلا على طرفي نقيض في التفكير التقليدي، وهما الطاقة وحماية البيئة.
البداوة ونُظُم البيئة
من هذه الزاوية، طرح جزائري رؤية توفّق بين بيئة الصحراء الجافة في الجنوب والتقاليد البدوية المرتكزة على الترحال، وهشاشة النظام البيئي في المنطقة. وبيّن أن ذلك التوفيق يشكّل تحدياً، لأن تقاليد الترحال لا تُسهّل الاستقرار في المدن. لذا، أثار جزائري سؤالاً محورياً يتعلق بعدد السنوات الافتراضية للنفط في حاسي مسعود، وهو سؤال تُؤثر نوعية الجواب عليه في مستقبل البلد برمته، لأن اقتصاد الجزائر لا يزال مرتبطاً بمصادر الطاقة. وأشار إلى أن حاسي مسعود ليست المدينة العربية الوحيدة التي تجابه هذا التحدي. فمنذ سنوات، أرست دولة الإمارات العربية المتحدة أسس مدينة جديدة (مصدر)، التي تتميز بكون مسارها مستقلاً تماماً عن الطاقة الأحفورية. وتعتمد مصدر أساساً على الطاقات المتجددة، خصوصاً طاقة الشمس، وتُراهن على ألا يكون لغاز ثاني أوكسيد الكربون مكان فيها.
واعتبر أن الإمارات استطاعت أن تعطي صورة مغايرة عن البلدان العربية النفطية، بتوصّلها إلى صيغة جديدة تُوفّق بين الطاقة التقليدية ومقتضيات التنمية المستدامة.
واستدل جزائري أيضاً بتجربة باكو عاصمة أذربيجان التي تشكل الطاقة محرك الحياة فيها، إلا أنها أوجدت اليوم آفاقاً واسعة للتنمية المستدامة. ويتطور المركز الرئيس لباكو بطريقة تعطيها مظهر المدينة العالمية. ويستجيب ذلك لموقعها الإستراتيجي في آسيا الوسطى، وينسجم أيضاً مع قدرتها على الجمع بين زخمها النفطي والمستقبل الأخضر الذي تبنيه عاماً بعد آخر بالاعتماد على الطاقات المتجددة.
ويُؤمل أن يُقوي المستقبل الأخضر من جاذبية المدينة، وأن يعزّز صورة البلد عالمياً. واستقى جزائري أيضاً من مثال هيوستن بوصفها إحدى المدن الكبرى التي أقامت نهضتها على النفط، إلا أنها تشهد حاضراً تحولاً جذرياً من أجل الانتقال إلى الثورة الخضراء.
تجربة برازيليا
في هذا المعنى، عرض جزائري رؤية تُمكّن من إنشاء مدينة في الصحراء الجنوبية تحمل مواصفات المدن الحديثة جميعها، ويعتمد اقتصادها على المحروقات، مع مراعاة استحقاقات مرحلة ما بعد نضوب النفط. وتستند الرؤية الى فكرة تقول ان المدينة أطول عمراً من حقل النفط، وأن التخطيط لمدن المستقبل يشكل فرصة لإطلاق الخيال ووضع مشاريع سياسية واقتصادية كبرى موضع التنفيذ. وعاد الى التجارب، ليستدل بتجربة العاصمة الجديدة للبرازيل (برازيليا) التي أنشئت بناء على فكرة في عقلي مخططيها أوسكار نيماير Oscar Niemeyer ولوشيو كوستا Lucio Costa، إذ اقتبسا تخطيط برازيليا من رؤية أشمل لمستقبل البرازيل صاغها جوسيلينو دي أوليفيرا Juscelino de Oliveira. وأشار جزائري الى أن مخطط برازيليا الذي يشبه شكل طائرة، تعرّض لانتقادات مختلفة.
وأثبتت التجربة أن نضوج ملامح المدن واكتمال صورها يحتاجان إلى وقت. وبعد مرور خمسين عاماً على الافتتاح الرسمي لبرازيليا، باتت اليوم تستقطب المعجبين بها من الأمكنة كافة. وقياساً على تلك التجربة، أكد جزائري أن مدينة حاسي مسعود الجديدة ينبغي أن تنقل الجزائر إلى القرن الحادي والعشرين، وتستجيب للمعايير الدولية في تخطيط المدن. في المقابل، أوضح أنه لا يملك حلولاً سحرية، بل يسعى لطرح سؤال أساس عن مصير مدينة نفطية رئيسة بعد نضوب النفط. واختتم جزائري حديثه بالتشديد على ضرورة تشكيل فريق عمل من خبراء في اختصاصات مختلفة لوضع تخطيط يناسب مدينة متوافقة مع الطاقة في المستقبل.
نقلا عن صحيفة الحياة الصادرة اليوم